الغربة في الأوطان أقدم العلّامة العربي المتصوف أبي حيان التوحيدي على حرق كتبه، بعد أن أصابه العوز وعانى من شظف العيش، وهو الأديب الفيلسوف، الخطيب الفصيح، المفكر الموسوعي، يوم ذهب يسأل المعونة من “الصاحب بن عبّاد” الوزير في الدولة “البويهية”، ومن الوزير العباسي “الحسن بن محمد بن عبد الله بن هارون” وعاد خائب الأمل وناقماً على عصره. حين ضاق به الحال واشتدت شكوته ولم يصغي له أحد، قام بحرق كتبه ومؤلفاته عندما بلغ الياس مبتغاه، وقال: “الغريب الحق هو ليس الذي نأى عن وطن بني من ماء وطين وفقد أهله وأحباءه، إنما الغريب هو ذلك الإنسان الذي يعيش في وطنه غريبا” إن الاغتراب في الأوطان يولّد أشد أنواع المشاعر الإنسانية وأكثرها ألماً لأنها تنتج عن الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية المحيطة بالبشر، وتسبب لهم انهيار في منظومة العلاقات الاجتماعية واختلال في العلاقة مع الذات، مما يؤدي إلى نشوء فجوة بين الفرد وذاته، وبينه وبين الأفراد الآخرين والمجتمع. إنه الانفصام عن الذات البشرية والاستياء والتذمر، وكذلك العزلة والعداء. وهي حالة غير الغربة التي تكون قرينة سفر المرء أو هجرته من بلده إلى بلد آخر كخيار فردي ولأسباب شخصية اقتصادية كانت أو للتحصيل العلمي، للعمل أو لاكتساب العلوم والمعارف. وربما تكون الغربة عبر السفر أو الهجرة خلاصاً فردياً من الضغوط المتولدة عن الظروف والصراعات السياسية والاقتصادية والدينية والاجتماعية في بلداننا، إلا أنها تبقى شأناً وقراراً وخياراً فردياً يقدم عليه الفرد طواعية، وهي حالة غير الاغتراب التي نتحدث عنه هنا، بالرغم من تشابك الحالتين في بعض المسببات بخلفية المشهد العام لبلداننا العربية التي بسبب واقعها المقيت دفعت بهجرة حوالي 35 مليون مواطن عربي يمثلون حوالي 8 في المئة من سكان الوطن العربي. الكثير منهم أصحاب كفاءات علمية وتخصصات استراتيجية تسببت بخسارة للعرب تقدر بحوالي 200 مليار دولار وفق التقارير الصادرة عن الجامعة العربية. الاغتراب فلسفياً كمصطلح فلسفي فإن أول من تحدث عن الاغتراب هو الفيلسوف الألماني “جورج فريدرش هيغل” الذي اعتبر أن الاغتراب هو قيام الإنسان بنفي نفسه كفرد فاعل في المجتمع، فيتحول هو ذاته إلى موضوع، فيصاب بالاغتراب ثم ينعزل عن ذاته ثم عن محيطه. ولا تنتهي هذه الحالة إلا حين يلمس الإنسان أن ذاته الشخصية كفرد في المجتمع وموضوعه وأهدافه وأحلامه يتطابقان، وهذا الأمر يتحقق من خلال قيام الفرد في إنشاء هوية خاصة به. وأوضح هيغل أن للاغتراب طريقين أحدهما يؤدي إلى العزلة والانكفاء، والآخر يوصل إلى الإبداع والابتكار. فيما اعتبر “كارل ماركس” الذي حوّل مفهوم الاغتراب من ظاهرة فلسفية إلى فعل تاريخي، أن الوجه الأخر للاغتراب يؤدي إلى صراع طبقي ثم ثورة وتغيير. ويظن بعض الفلاسفة ومنهم “لودفيغ فورباخ” أن الدين هو الذي يسبب الاغتراب للبشر، على اعتبار أن الأديان هي حلم بالنسبة للأفكار الإنسانية ولابد من تحققها في الواقع. بينما رأى الفيلسوف وعالم النفس الألماني “إريك فروم” صاحب كتاب “الهروب من الحرية” أن غربة الانسان عن نفسه نتيجة النزعة الاستهلاكية التي تفرضها المجتمعات الصناعية المتطورة التي قفزت فيها الحداثة حيث أصبح الإنسان عبداً لما ينتجه، بدلاً أن يكون المنتج في خدمة الإنسان، وهو ما أدى إلى أن يصبح الإنسان أكثر شكاً وقلقاً وعزلة وخوفاً في مجتمع لم يعد مهتماً لبناء علاقات إنسانية طبيعية وسليمة بين أفراده. إن مفهوم الاغتراب تتسع ضفافه لتشمل كلاً من الاغتراب السياسي والاقتصادي والثقافي والديني والاجتماعي والحقوقي والتربوي والايديولوجي والقيمي، إضافة إلى اغتراب ينتح عن التطور الهائل في تكنولوجيا المعلومات ووسائل الاتصال، واغتراب تسببه متغيرات على أنماط الحياة المعتادة، وجميعها تسبب الشعور بالعجز والإحباط لدى الإنسان، وتفصله عن مجتمعه وتدفعه للانكفاء. اغتراب الشعوب العربية خلال فترة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، انتعشت الأفكار القومية في المنطقة العربية وتبلور مشروع قومي عربي، ورفع القوميين العرب شعار النهضة العربية في مواجهة الاستعمار الغربي والرجعيات العربية. إلا أن من سوء طالع الشعوب العربية أن هذا المشروع الذي دعا أصحابه إلى النهوض قد انتكس بداية من هزيمة حزيران العام 1967 التي كرّست الاحتلال الإسرائيلي لأراض من ثلاث دول عربية. ثم ظهرت الأفكار اليسارية والماركسية والثورية، وجدت تعبيراً عنها في الأحزاب والقوى التي سعت بصدق ورومانسية نحو تغيير الواقع لكنها فشلت في تحقيق تطلعات الناس. استفاد الإسلام السياسي من مربع الفراغ بعد انهيار المنظومة الاشتراكية في بداية تسعينيات القرن العشرين، وانتهاء الحرب الباردة، ليعيد طرح مشروعه كبديل مقبول محلياً على أنقاض المشروع اليساري، إلا أنهم خلطوا الأوراق بين الدعوي والسياسي، وأثاروا أسئلة عند الشعوب أكثر مما قدموا حلولاً. ولم تستطيع معظم الأنظمة العربية أن تكون الحاضن الطبيعي لشعوبها من خلال بناء دولة القانون والمواطنة. ثم جرت محاولة تقويض المشروع الفلسطيني الذي اعتبر رأس رمح للشعوب العربية، وتم تشتيت القوة الفلسطينية في عدة دول عربية بعد خروجها من بيروت العام 1982. وتعرض الإنسان العربي لانكسار آخر حين أقدم العراق على احتلال الكويت، وقيام الغرب والولاياتالمتحدة باحتلال بغداد. وخلال السنوات الماضية عانت وماتزال شعوب عربية كثيرة من الاقتتال الداخلي الدموي. فوجد الإنسان العربي نفسه أمام حلقات متواترة من الانتكاسات، حتى بت لا تجد دولة عربية واحدة على علاقة طبيعية ودية مع دولة عربية أخرى، ناهيك عن انقسامات عامودية وأفقية، عرقية ومذهبية داخل كل قطر عربي على حدة، وما زالت الهزائم العربية تتوالى ليومنا هذا. فكيف لا يشعر الإنسان العربي بالاغتراب والإحباط وانقطاع الأمل. حتى تكتمل خلفية المشهد لابد من معرفة المتغيرات التي أصابت العالم ومن ضمنه المجتمعات العربية مع تضخم عمل الشركات الاقتصادية متعددة الجنسيات، العملاقة العابرة للقارات بدءًا من أواسط الثمانينيات في القرن العشرين، والتي بدأت تسيطر على الأسواق العالمية، وتغير من الأنماط الاستهلاكية للبشر، بما يحقق لها مزيداً من الأرباح، حولت الكرة الأرضية إلى مدينة كبيرة أشاعت في جوانبها ثقافة العولمة، الأمر الذي أفضى إلى حدوث تحولات في بنية المجتمعات العربية التي تحكم معظمها أنظمة مستبدة ترتبط بمصالح متعددة مع الاستعمار الغربي، وتثقل كاهل شعوبها بضنك الحياة والتضييق عليهم بالقهر والقمع، فأصيبت الجماهير العربية بحالة من الإحباط والشعور بالعجز أمام الآخر، وشاع بين الشباب الإحساس بعدم القدرة على توفر إمكانية النهوض العربي، وعدم مقدرة الأنظمة بأدواتها الحالية على إنجاز أي تغيير وتطوير في الواقع الراهن. من مشرق العالم العربي إلى مغربه يشعر العرب في معظم الدول بالخيبات التي لا تتوقف، ويسيطر عليهم القنوط وعدم الثقة بأنظمتهم ولا بالأحزاب السياسية ولا بالأيديولوجيات ولا بالقيادات التي فشلت طيلة عقود طويلة في إنجاز أي من مهام المشروع النهضوي العربي، وعن تحقيق أي من الأهداف التي صدّعت فيها رؤوس العباد خلال أكثر من نصف قرن. وبالرغم من أن إمكانية النهوض والتطور العربي هي إمكانية حقيقية كامنة في الحراك الاجتماعي العربي وفي حالة تطور دائم، إلا أن روافع النهوض وأدواته وبرامجه والرؤى الاستراتيجية جميعها غابت عن أصحاب المشروع الإصلاحي في العالم العربي من اليسار ومن اليمين. فقدان الهوية إن الإحساس بالهوية ينتج تكاملية لدى الفرد، ويعزز قدرته على التوفيق بين المتناقضات، وكذلك تمنحه إمكانية التماثل للتواصل والاستمرار. ولأنها في جوانبها تعكس علاقة المواطن بواقعه، فإن غالبية العرب لا يرون أنفسهم في هويتهم، ولا يرونها في واقعهم الراهن، بل يرون حالهم من خلال مرآة متكسّرة لا تستطيع أن تعكس الصورة الكاملة عن العرب. يعود ذلك إلى عدم الثقة بالذات نتيجة القمع والقهر الذي تتعرض له “الأنا” الفردية والجمعية، حيث أصبح الكثيرون يعتبرون أن لا معنى ولا مستقبل لهم في هذه المجتمعات التي يعيشون فيها، وهو ما جعلهم يتخلون عن القيم المجتمعية المتعددة حتى بلغ الأمر الوصول إلى ما نسميه تمييع الهوية. القلة من الناس تمكنت من رسم ملامح إيجابية لهويتها، لكنهم تاهوا بفعل الضغط الذي تولده الظروف المحيطة بمعيشتهم وتناقضاتها. وبعض الناس اختارت لنفسها هوية سلبية، فانعزلت عن المجتمع وانكفأت على ذاتها، أو لجأت إلى ممارسة العنف كطريقة للدفاع عن ذاتهم الداخلية وحمايتها من السقوط والهزيمة، فارتدوا إلى الخلف ونبشوا في التراث وأخرجوا منه مصدات للاحتماء نتيجة عجزهم عن مواجهة واقعهم الرديء، وفشلهم في إحداث تغيير إيجابي فيه. حاولت الكثير من الشعوب العربية طيلة العقود الماضية أن تبحث عن هويتها وانتماءها، فانقسمت على نفسها بين من رضي بالرضوخ والانسياق، وبين من أصابهم خللاً في التوازن مع ذواتهم ومع مجتمعهم، ليعكس كلا الجانبين هوية مشوهة لا تعبر عن المكونات الأصيلة. هذا الاضطراب المجتمعي أوجد أزمة في الهوية ومكوناتها، أزمة الجزء مع الكل، وأزمة الجميع مع الأنظمة القهرية التي وظفت هذه الفوضى لتحويل قطاعات واسعة من الشرائح الاجتماعية إلى أفواه مستهلكة، وحولت الشعوب إلى جماعات عبارة عن قطعان يسهل قيادتها. الحاضنة الملائمة إن جاز لنا أن نسأل عن الأسباب التي تجعل المواطن العربي يشعر بالاغتراب في وطنه وبين أهله ووسط مجتمعه، فإن تعددت المسببات وتشابكت إلا أنها تتجلى بصورة واضحة في الحالة التي يعيشها الإنسان العربي بشكل يومي، فكيف لا ينتاب المواطن العربي الشعور بالاغتراب في وطنه وهو لا يكاد يجد قوت يومه، ويعاني الأمرين لأجل تعليم أبنائه، يكابد ضنك الحياة وارتفاع متزايد في تكاليف المعيشة الأساسية، يجد نفسه مطحوناً وسط حلقة مغلقة من التجاذبات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. يعيش في مجتمع يعاني من نكوص فاضح في الخدمات العامة، وشيوع الفساد الإداري والرشوة والمحسوبية، استفحال ظاهرة البيروقراطية الإدارية والروتين في كافة مفاصل الدولة والمجتمع. كذلك تفشي الإرهاب الفكري والسياسي والديني، في مناخات لم يعد كافياً رفض الآخر وعدم الاستماع له، بل أصبح البعض يتبنى ثقافة الإقصاء والاستئصال وإلغاء الآخر كلياً وفعلياً. انتشار الصراعات الداخلية والمذهبية والعرقية والطائفية، وعلو قيم القبيلة والملل فوق قيم المواطنة والقانون، معاناة تسببها ثقافة الجهل والتعصب والتشدد في مجتمع لا يقيم للإنسانية اية أهمية، لا للمرأة ولا للطفل ولا للعجوز، لا إمكانية لرعاية المبدعين، ولا وجود لمراكز أبحاث حقيقية، ولا يصرف على البحث العلمي، مجتمع فاقد لكافة المعايير المرتبطة ببناء الدول، حيث يتم وضع خريجي كلية الشريعة في مراكز الطب البيطري. إذن هي عديدة وشائكة عوامل الاغتراب ومسبباته، ومادامت مبرراته في الوطن العربي قائمة، فإن حالة التيه والضياع لدى الإنسان العربي سوف تتفاقم في ضوء مجمل الأوضاع الراهنة في المنطقة العربية، وفي مقدمتها القمع والاستبداد السلطوي، القهر والكبت والإرهاب الديني والفكري والسياسي، استمرار حملات تكميم أفواه المعارضين وزجهم في السجون، غياب الحريات العامة، انعدام الحقوق المدنية والسياسية والثقافية، هزالة نظام الرعاية الصحية والاجتماعية، فشل المنظومة التعليمية كادراَ ومناهجاً ومؤسسات، الصراعات العرقية والمذهبية والطائفية، ازدياد طوابير العاطلين عن العمل، ارتفاع في مستويات نسب الفقر، سحق الطبقة المتوسطة، تفشي أجواء ومناخات الإحباط وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، عدم وجود مناخ علمي ولا حريات أكاديمية. بلدان كسيحة فالواقع العربي الراهن أنتجته الأنماط السياسية القائمة -في معظمها- على القهر وقمع الحريات العامة، هذا الواقع أوجد دولاً كسيحة تعاني من أزمات بنيوية منهاجية لا تعد ولا تحصى، من استمرار ارتفاع مستويات الفقر والبطالة والأمية وتفشي الجهل، إلى غياب الرعاية الصحية والاجتماعية للمواطنين الذين يعانون من التهميش، في دول تسيطر عليها أنظمة بوليسية استبدادية لا تقيم للإنسان وحقوقه أي اعتبار. هذه الظروف تحفر بعمق وتخلف ندوباً في حياة المواطن العربي المعاصر الذي يقف عاجزاً مسلوب الإرادة في مواجهة واقعه ومصيره، ليعاني بالتالي من حالة اغتراب سياسي واجتماعي وروحي وفكري، تدفعه للتساؤل عن مدى أهمية وجوده ودوره وفاعليته، ليدخل في دائرة مغلقة من القنوط والانكسار لا فرصه له بالخروج منها. قيام معظم الأنظمة العربية بتهميش المواطنين جعل الشعوب تضيق ذرعاً وتتوقف أمام مكانتها وقيمتها ودورها في المجتمع، وتدفع الناس للتساؤل عن هويتهم، من نحن؟ ومن الآخر؟ وفي أي دول نعيش؟ وإلى أين تقودنا هذه الأنظمة المتهالكة؟ وبالرغم من عمق أزمته الإنسانية الكبيرة فأن المواطن العربي لم يفقد ثقته بالمستقبل تماماً، وهو يرفض قطعياً بقاء الأنظمة الفاسدة والمفسدة، ويرفض استمرارها في تدبير شؤونه، ونلمس إصراراً من قبل الشعوب العربية على محاولة استعادة دورهم ومكانتهم في مجتمعاتهم، وعلى إعادة تعريف هويتهم بما تعنيه من إحساس وجداني عميق، يحدد وجودهم وانتماءهم ويمنحهم الأمل، ويساعدهم على تحديد أهدافهم وتحقيقها. امتلاك أدوات التغيير طيلة الفترة الماضية، وعلى الدوام كانت معظم الشعوب العربية تعيش حالة من التيه والضياع والتشرذم بين السلطة الدينية التي يفرضها عليهم رجال الدين، وبين سلطة الموروث الثقافي والاجتماعي والعادات والتقاليد، وبين السلطة السياسية بكافة أدواتها ورموزها، وبين الأحزاب السياسية التقليدية أو المعارضة، وبين أحلامهم الشخصية وتطلعاتهم الفردية. لا أحلامهم تحقق شيء منها، ولا الأنظمة أصبحت ديمقراطية، ولا الموروث الاجتماعي اندثر رغم مظاهر الحياة الحديثة، والسلطة الدينية جزء منها أصبح متطرفا ضد السلطة السياسية وضد البشر أنفسهم، والأحزاب السياسية في حالة موت سريري، وبعضها مصاب بشلل دماغي، ولم يبقى حياً فيها سوى اسمها وبعض الأدبيات الحزبية. لكن حركة التاريخ لا تتوقف، والمجتمعات البشرية لا تكف عن التفاعل بين مكوناتها، التطور يحصل حين تتوفر ظروف التغيير، حين تلتقي الإمكانية والأداة مع الإرادة والشرط الموضوعي. لا يمكن للشعوب العربية أن تحلم وتسعى لتحقيق تطلعاتها في حياة بسيطة كريمة، لا يحتاج فيها أستاذ الجامعة إلى ذل الاستدانة، دون الارتقاء بمستوى الوعي الاجتماعي لهذه الشعوب، حتى تتمكن من امتلاك الأدوات التي تمكنها من تحقيق التعيير الذي تريديه، وتحتاج إلى حرية الإرادة وحرية الفعل، وهما شيئين غير متوفرين حالياُ في العالم العربي بظل الاستبداد السياسي القائم، وسياسات تكميم الأفواه، والقمع الذي تفرضه بعض الأنظمة العربية على شعوبها، قهر وصل إلى حلوق البشر. تصدعات آيلة في التراجيديا العربية يبدو المشهد مربكا وشائكاً، حيث تتفكك فيها الذات الشخصية للمواطن العربي وتغترب عن نفسها وعن محيطها، بسبب الحالة العربية في معظم الدول، حيث التراجع الكبير في البنى التحتية الاقتصادية والاجتماعية والصناعية والخدمية، وانعدام المستويات الإنسانية لمعيشة لائقة للبشر. يغترب الانسان العربي لاستبداد السلطة السياسية، وتغول الأجهزة الأمنية وتطاولها على المواطنين، ضعف المؤسسات التشريعية والحقوقية، انتشار النعرات الطائفية والمذهبية والصراعات الأهلية الداخلية، وتحلل النسيج الاجتماعي. إن كانت الهجرة الطوعية للكفاءات العلمية والمهنية العربية تتسبب بخسائر اقتصادية ومالية، وتؤثر سلباً على العملية الإنتاجية برمتها، وعلى الدخل القومي، وتعيق تحقيق الخطط التنموية، فإن الهجرة القسرية للمبدعين والمثقفين والمفكرين فإنها تفضي إلى إحداث فراغ نتيجة ضعف قابلية تشكل بدائل عنهم في الأوطان التي غادروها بسبب القمع والقهر، وهو ما سوف يؤدي إلى مزيد من التفرد والهيمنة والاستبداد الذي تمارسه السلطات السياسية في معظم الأنظمة العربية على شعوبها، ومحاولة حجبها عن اية محاولات ريادية إصلاحية تسعى للتغيير، مما يجعل هذه الشعوب فريسة للأفكار المتطرفة وللتشدد الديني والسياسي والمذهبي والعرقي. الصدع الكبير الذي يصيب أوطاننا العربية هو الاغتراب داخلها وفيها ويؤدي إلى تفسخ الرابطة بين الفرد والمجتمع، والصدع الأكبر هو نزيف الأدمغة العربية المستمر نحو الغرب. وهنا لا نعني بهجرة العقول والمثقفين من الوطن العربي فقط حملة الشهادات الجامعية العليا من الدكتوراه والماجستير، بل نعني جميع الكفاءات والخبرات في مختلف الميادين الإنسانية والعلمية في الطب والهندسة والاقتصاد والإعلام والفنون. إذ يشير التقرير الإقليمي الثالث للهجرة الدولية والعربية الصادر عن جامعة الدول العربية لعام 2014 إلى أن ما يقارب من نصف الأطباء و23 بالمئة من المهندسين، و15 بالمئة من العلماء العرب هاجروا إلى دول أوروبية وإلى الولاياتالمتحدة وكندا. هذا النزوح المستمر للعلماء والخبرات من المنطقة العربية سوف يوسع الهوة الحضارية والعلمية بين العرب والدول الغربية أكثر فأكثر. ويؤدي إلى تراجع مستويات التنمية في المنطقة العربية، واستمرار استيراد الخبرات الأجنبية إلى بلداننا لسد النقص الحاصل، والتكلفة الاقتصادية المالية المرتفعة التي نسددها لهم. كما أن هجرة العقول العربية سوف تتسبب كذلك في انخفاض مستويات التعليم الجامعي نتيجة النقص في المؤهلات الأكاديمية والبحثية. وتؤثر في قدرة العرب على الربط بين المستويات التعليمية والحالة الثقافية من جهة وبين متطلبات خطط التنمية من جهة أخرى. إن الأمم التي تحترم وترعى علمائها ومفكريها وخبراتها الوطنية تكون قوية بهم، ولأننا لا نقدر ولا نكرم المثقفين والعلماء فإننا لسنا أقوياء علمياً ولا اقتصادياً ولا حضارياً. وما دامت الأسباب التي تقف خلف هجرة الناس وخاصة العقول والكفاءات العلمية من بلداننا، وفي مقدمتها الفساد السياسي، وعدم تقدير الكفاءات العلمية، ومحدودية العائد المالي لأصحاب التخصصات، وهزالة الإنفاق على البحث العلمي، وسياسة وضع العلماء في وظائف لا تتلاءم مع تخصصاتهم، فإن هذا النزيف سوف يتواصل. وما لم يتم وضع استراتيجية عربية واضحة ومحددة لمعالجة هذا الاستنزاف لأهم ثروات الأمة، فإن الأدمغة العربية العلمية سوف تجد نفسها مكرهة للهجرة بحثاً عن بيئة أرقى وأكثر حرية واستقراراً، وأجدى مالياً وأكاديمياً، دون أن تتكلف عناء النظر للخلف حيث تقبع الخطط التنموية المتعثرة، ويقف التاريخ هرماً عند أمجاد لا يمكن استعادتها. * كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمارك