قال الباحث المغربي خالد حاجي إن "من يتأمل في أحوال العالم يجد أن الساحات الثقافية والفكرية صارت تضيق أمام الإبداعات الفلسفية والشعرية، وكأن الخطاب الفلسفي والقصيدة الشعرية استنفدا أغراضهما فأخليا المكان لخطاب جديد ما فتئت نجومه تزداد تألقا، ألا وهو خطاب التكنولوجيا". وأضاف حاجي، في مقال له بعنوان "الميتافيرس أو العلاقة بين التكنولوجيا والطبيعة والإنسان"، أن "التكنولوجيا لم تعد مجرد تقنيات وأدوات تُستعمل في تحريك رحى المعيشة، بل صارت ثقافة تُحدد علاقة الإنسان بالزمن والمكان، وتُملي عليه أشكال حضوره في العالم الطبيعي". وورد ضمن المقال أنه "حين يسقط الإنسان في أسر خطاب تقني تكنولوجي يوهمه بالقدرة على برمجة أنواع من الوجود، فعندها يسقط في الغفلة وتتقطع صلاته بالوجود الأصيل"، موضحا أن الاعتراض يكون، لا على التكنولوجيا بوصفها أداة في يد الإنسان يُسخّرها لبلوغ التمتع والاستقرار في الطبيعة، بل على الخطاب التكنولوجي الذي أصبح همه التسويق لأنواع من الوجود المبرمج". وهذا نص المقال: "الميتافيرس" أو العلاقة بين التكنولوجيا والطبيعة والإنسان لم يسبق للفلسفة أو الشعر أن فتحا فضاءً يستهوي مئات الملايين من البشر ويستحوذ على اهتمامهم مثلما تفعل التكنولوجيا اليوم. فقد استطاعت التكنولوجيا بالفعل أن تتخطى العوائق اللسنية والثقافية والدينية فتنمط سلوك الإنسان لتحوله إلى كائن صفته الإدمان على الشاشات الرقمية الذكية، حتى صار القاسم المشترك بين غالبية أطفال العالم اليوم ومراهقيه هو الجلوس أمام هذه الشاشات دون مبالاة بما يحدث من حولهم، وكأن الأداة التكنولوجية جردتهم من حس الانتماء إلى مكان وجودهم الأصلي لتزج بهم في أماكن افتراضية تهفو إليها عقولهم وأرواحهم. من يتأمل في أحوال العالم يجد أن الساحات الثقافية والفكرية صارت تضيق أمام الإبداعات الفلسفية والشعرية، وكأن الخطاب الفلسفي والقصيدة الشعرية استنفدا أغراضهما فأخليا المكان لخطاب جديد ما فتئت نجومه تزداد تألقا، ألا وهو خطاب التكنولوجيا. حين نحسن الإصغاء إلى مارك تسوكربرغ وهو يقدم ملامح مشروعه الجديد "ميتافيرس" (Metaverse) ندرك أننا أمام منعطف جديد في تاريخ الفكر الإنساني. فحديث تسوكربرغ عن "الوجود" و"الحضور" و"الكون" حديث يؤشر على أن أسئلة الوجود الكبرى لم تعد شأنا فلسفيا مجردا أو شعريا خالصا، بل صارت أسئلة تُطلَب لها أجوبة تكنولوجية ذات طبيعة تقنية عملية. في معرض التبشير بفتوحات "الميتافيرس" يقول تسوكربرغ إن هذه التكنولوجيا الجديدة ستساعدنا على "تكثيف إحساسنا بالحضور في أماكن أخرى". ولعلنا نجد في قوله هذا ما يغنينا عن البحث في ثنايا تفاصيل حديثه الكثيرة عن المقصد أو المقاصد من وراء الاشتغال على تطوير مشروعه التكنولوجي المذهل في ظاهره. فأمام الحديث عن تكثيف الإحساس بالحضور في أماكن أخرى نجد أنفسنا نُجابَه بسؤال "التكنولوجيا والوجود"، هذا السؤال الذي سبق أن خاض فيه كثيرون، على رأسهم الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر. إذا كان ظاهر الحديث عن "تكثيف الإحساس بالحضور في أماكن أخرى" يوحي بأننا أمام مقصد جديد لم يُسبَق إليه، فإن باطنه يحيلنا على إرث فلسفي ضارب في القدم. وما سَعيُ تسوكربرغ وأمثاله من رواد التكنولوجيا اليوم إلى بلوغ هذا المقصد إلا تجسيد لتصورات عن الوجود، يقول أصحابها بإمكانية التأسيس لعالم مثالي خالص من شوائب العالم المعطى، يُمنّون النفوسَ ويشوّقونها إلى أماكن غير مكان وجودها، كما هو حال أصحاب الفكر "الطوبوي"، مثلا؛ حيث إن مدلول لفظة طوبوي في أصلها اليوناني (Utopia) يفيد "اللا-مكان". إن الحديث عن تكثيف الحضور في أماكن أخرى ينطوي على مسلَّمة مفادها القول بفساد المكان الطبيعي وضيقه أمام الكائن. ولا نظن أن التكنولوجيا، المتمثلة في نظّارات تُمكننا من التفاعل مع "الواقع الافتراضي" و"الواقع المعزز أو المدمج"، بإمكانها أن تكثف الإحساس بالحضور في المكان المحسوس، بل تزيد الإنسان إحساسا بالاغتراب في هذا المكان. فالحقيقة هي أن التكنولوجيا لا تَعِد بحل مشكل الفلسفات التي أفضت إلى فصل الإنسان عن العالم وتجريده من حس الانتماء إلى الطبيعة، بل تزيد هذا الإنسان انغماسا في عوالم من صنع خياله العقلي ومهارته الصناعية. قد يكون لتطبيقات "الميتافريرس" فوائد عملية كثيرة لا سبيل إلى إنكارها أو التقليل من قيمتها، كالمساعدة في تنظيم العمل الإداري والدراسة والتعلّم عن بعد، أو الاستمتاع برفقة الأصدقاء والأقرباء الذين تفصلنا عنهم مسافات طويلة، أو المساهمة في بعض الألعاب، وغيرها من التطبيقات العملية. غير أن هذه التطبيقات لا ترقى إلى مستوى الإجابة عن أسئلة المعنى المرتبطة بوجود الإنسان؛ بل تظل مجرد إبداعات تقنية كسابقاتها، ما تلبث أن تتحكم في تنظيم علاقة الناس بالزمن والمكان، حتى تَظهر الحاجة إلى تجاوزها. إن ما يدعو إلى القلق هو أن التكنولوجيا لم تعد مجرد تقنيات وأدوات تُستعمل في تحريك رحى المعيشة، بل صارت ثقافة تُحدد علاقة الإنسان بالزمن والمكان، وتُملي عليه أشكال حضوره في العالم الطبيعي. فالتكنولوجيا، كما تتجسد في مشروع "الميتافيرس"، تؤشر على تجاوز العقل الإنساني لمرحلة "الوجود الأصيل"، حيث كان الإنسان "يحيى شعرا فوق هذه الأرض" كما يقول الشاعر الألماني فريدرش هولدرلين Friedrisch Hölderlin، أي حياة قوامها الشعور بالانغماس في الوجود الطبيعي المعطى؛ أو حيث يرفض الإنسان الانجحار داخل أنساق ضيقة تحجب عنه رؤية الكون الفسيح كما نفهم من أبيات الشاعر العربي الشمقمق التي مطلعها: برزت من المنازل والقباب فلم يعسر على أحد حجابي فمنزلي الفضاء وسقف بيتي سماء الله أو قطع السحاب فأنت إذا أردت دخلت بيتي علي مسلما من غير باب لأني لم أجد مصراع باب يكون من السحاب إلى التراب الشاعر لا يصنع الأبواب، لأنه يرى في الباب أداة تفصل الداخل عن الخارج وتحرم الكائن من الإحساس بالانتماء إلى الكون. بهذا المعنى يكون الشعر تعبيرا عن مرحلة الشعور بالوجود في الكون. كما أن المشاريع التكنولوجية تؤشر على تجاوز مرحلة الفلسفة، حيث يسعى الإنسان إلى تَعقُّل العالم، أي الخروج من مضمار الشاسع المطلق، ثم دخول مضمار الضيق المغلق. فالعقل الفلسفي يقوم بتفكيك الواقع إلى أجزاء، يحدد ماهية كل جزء منها وفق منطق الحدود الذي قوامه "الجمع والمنع" (Inclusion/Exclusion)، أي الفصل بين الداخل والخارج، قبل أن يعيد تركيب هذه الأجزاء تركيبا نسقيا عقليا خالصا. وبهذا يكون عنوان مرحلة الفلسفة هو "بَسط العقل على الوجود". أما التكنولوجيا فقد صارت، مع "الميتافيرس" وأمثالها من المشاريع التكنولوجية الأخرى، تروم "بَسط الصناعة على الطبيعة"، خارجة بذلك من مرحلة صناعة الأنساق الفلسفية والجدل الفلسفي الذي يرافقها. لم يعد العقل التكنولوجي يقف عند حدود الوجود كما يتبلور في أنساق ذهنية، بل تعدى ذلك ليتوسل بالأداة التكنولوجية كي ينفخ الروح في "وجودٍ مُبَرْمَج". لا عجب أن يحظى "المُبرمِجون" بمكانة مرموقة في عالم التكنولوجيا اليوم، ذلك أننا نعيش زمن "بَرْمَجة الوجود". ألا ترى كيف أصبح الإنسان المالك لأداة تكنولوجية، ممثلة في نظارات، يشيح بوجهه عن الوجود الحقيقي ممثلا في منظر البحر أمام عينيه، كي يطلب التنعُّم بوجود آخر، بمنظر بحر آخر "أحسن تركيبا وتأليفا وأبهى ألوانا وأشكالا". أقل ما يمكن أن يقال هو أن هذه العوالم المبرمجة تكنولوجِيّا تدخل الإنسان مرحلة صار يشتبه عليه فيها الوجود الأصلي بالوجود المزيف. ولا نخال هذا الإنسان، مع مرور الوقت، إلا مُفْرِطا في الإقبال على العوالم المُبرمَجة، مفَرِّطا في العالم الحقيقي. ذلك أن الأجيال التي ترعرعت في حضن الثقافة الرقمية، أو "سكان العالم الرقمي الأصليين" كما يطلق عليهم (Digital natives)، أصبحوا مقطوعي الصلة بالفضاء الطبيعي، يقضون معظم أوقاتهم في فضاءات افتراضية رقمية طلبا للتلذذ بمحسوسات البصر. والحاصل أن الإقامة في هذه الفضاءات لا تزيد هذه الأجيال إلا شغفا بالعوالم الافتراضية، ولا تذكي إحساسهم بالحاجة إلى العودة إلى الوراء، إلى عالم الطبيعة. مثلهم مثل الأطفال الذين يُعنون ببرمجة الألعاب، وتَصْرِفهم هذه البرمجة عن اللعب. فالإنسان الذي يوغل في التفاعل مع الواقع المبرمج يفقد القدرة على التعامل مع الواقع الطبيعي. تلوح للمتأمل في الخطاب التكنولوجي اليوم وجوه من الإفراط في التبشير بعوالم مجردة والتسويق لأنواع من "الوجود المبرمج"، حتى صار السامع لهذا الخطاب يتوهم أن التكنولوجيا ستبيعه قِسْطا من الحياة. والحاصل أن تكنولوجيا الميتافيرس وشبيهاتها ليست تكنولوجيا تُسهّل تواصل الإنسان بالطبيعة وتكثف إحساسه بالحياة فيها، بقدر ما تزيده اغترابا في عوالم اصطناعية. وبهذا الاعتبار يصح انتقاد الخطاب التكنولوجي، وتفكيك الأسس الفكرية التي يقوم عليها. العلم والطبيعة والإنسان وفي هذا الصدد، ما أحوجنا اليوم إلى إعادة قراءة كتاب "كوسموس" (Kosmos — Entwurf einer physischen Weltbeschreibung) (خمسة أجزاء: 1845-1862) لصاحبه ألكساندر فون هومبولت Alexander von Humboldt الذي كان له تأثير كبير على مجمل الشخصيات العلمية والسياسية في السياق الأوروبي والأمريكي- من الرئيس الأمريكي طوماس جيفرسون إلى تشارلز داروين، ووالت ويتمان، وهنري دايفيد ثورو، وجورج بيركينس مارش، وجون ميور، ورالف وولدو إيمرسون، وسيمون بوليفار محرر أمريكا اللاتينية، وغيرهم ممن لا يتسع لذكرهم المقام. ويتمحور كتابه "كوسموس"، الذي هو محاولة لوصف مادي لملامح الطبيعة، حول فكرة أساسية مفادها أن الحياة كلُّ لا يقبل التجزيء. كان هومبولت، وهو يصف النبات والأشجار والأحجار وغيرها من تفاصيل الطبيعة، يعنى بالبحث عن علاقة الأشياء ببعضها البعض، يُحرّكه شعور بأن العِلم الذي يقتصر على معرفة الشيء في معزل عن الأشياء الأخرى هو علم ناقص مبتور، لا يحيل على تدبر الحياة، بقدر ما يسعف في تفكيك الطبيعة إلى أجزاء هامدة. وأنت إذا فككت الطبيعة إلى أجزاء هامدة يستحيل أن تنفخ فيها الحياة إذا ما أعدت تركيبها مرة ثانية. يستطيع الإنسان أن يفكك محرك سيارة إلى أجزاء ثم يعيد تركيبه من جديد، فيضمن اشتغاله. لكن الحياة في الطبيعية لا توهب مرتين، إنما توهب مرة واحدة، لذلك فإن الشيء المبتور عن سياق حياته إن قتل يستحيل إعادة إحيائه. فالعلم لا يستطيع أن يفكك جسم الإنسان أو الحيوان، ويعيد تركيبه ثم ينفخ فيه الحياة. بهذا الاعتبار يرى هومبولت من الضروري فتح المنظومة العلمية على البعد الشاعري، كي تظل صلة الإنسان بنظام الحياة الطبيعي قائمة. فإذا كانت المعرفة العلمية والمهارة التقنية تمكن من تركيب حياة اصطناعية، فإن الحس اللغوي يكثف شعورنا بالحياة في حقيقتها، كما تتجسد في الكون الفسيح الشاسع. ولهذا أتى أسلوب هومبولت في الكتابة أسلوبا يمزج بين لغة العالِم المتمكن من موضوع دراسته العلمية، ولغة الشاعر المُجلّي لباطن التجربة الشعورية. وفي هذا خروج عن حدود "الموضوعية العلمية" التي لا يرافقها شعور بالطبيعة. يظل من الوهم الاعتقاد في إمكانية خلق وجود ونفخ روح الحياة فيه. هذا على أن هناك عقليات فلسفية ظلت على امتداد التاريخ تتوسل بالعقل، لا بغرض بلوغ الاستقرار والتنعم في الوجود، بل بغرض التأسيس لعوالم أخرى؛ كما أن هذه العقليات تتوسل بالتقنية والتكنولوجيا للتحكم في الواقع الطبيعي. والحاصل أن العقل الإنساني، وإن كان يدرك كيفية التحكم التقني في أجزاء الطبيعة، فإنه يجهل تمام الجهل مآلات هذا التحكم. هناك مثل يجلي بوضوح تام كيف يفضي الجمع بين التمكن التقني والجهل بالمآلات إلى كوارث تهدد مصدر الحياة. لقد استطاع الإنسان أن يطور مبيدا يخلصه من بعض الحشائش الضارة في محيط البحر الأبيض المتوسط، ظنا منه أنه يحسن صنعا؛ غير أنه اكتشف لاحقا أن الضرر كل الضرر يكمن في محاولة تخليص الطبيعة من هذه الحشائش. فقد اكتشف من بعد أن القنافذ كانت تجد في هذه الحشائش، المسماة ضارة، الترياق الذي يقيها من سم الأفاعي بعد أكلها. وقد ترتب عن اختفاء هذه الحشائش أضرار لا تقف عند موت القنافذ فحسب، بل تتعدى ذلك إلى إحداث خلل بيئي كبير، حيث مع موت القنافذ يزداد عدد الأفاعي، ومع زيادة الأفاعي تقل الطيور، ومع قلة الطيور تزداد الحشرات، ومع ازدياد عدد الحشرات تكثر الأمراض، وهكذا دواليك. إن الإنسان قادر على أن يبني أنساقا عقلية، بفضل ما أوتي من قدرة على تسمية الأشياء وتثبيتها في الفضاء العقلي؛ كما أنه قادر على تطوير الأداة التقنية، مما يمكنه من تجاوز حدود قوته العضلية، بل تجاوز حدود قوته العقلية كما هو الشأن اليوم مع الذكاء الاصطناعي؛ ومع هذا كله يظل في حاجة إلى ثقافة البيان، حتى يتبين الأبعاد الأساسية للوجود ومكانته في الكون. فثقافة البيان في أرقى صورها تؤهل الإنسان كي يرحل من الصوت إلى الصمت، كي يحسن الإصغاء إلى "الكلام يتكلّم"، أو كما قال مارتن هايدغر (Die Sprache spricht). يُعرّف كينث وايت Kenneth White h الإنسان قائلا إنه كائن "بيو – كوني – شاعري" (Bio-cosmo-poetic)، أي كائنا ذا أبعاد ثلاثة، بعدان يشترك فيهما مع سائر المخلوقات الأخرى، ألا وهما البعد البيولوجي وبعد الانتساب إلى الكون؛ وبعد ثالث خاص به، ألا وهو البعد الشاعري. ومقصود وايت بالبعد الشاعري هو اللغة التي تصل الإنسان بالكون، تُرسّخ إحساسه بالانتماء إلى الأرض، موطن وجوده، وتُسعفه في تبليغ هذا الشعور وتوصيله وتبيينه. ولعل وايت هنا يستحضر حديث الشاعر الفرنسي آرثر رامبو عن دور الكلمة الجوهري في تمثل الإنسان للوجود وللعالم، حيث يقول بوجود علاقة ثلاثية متينة بين "الذات والكلمة والعالم" (Mot – moi – monde). واضح أن هذه التعريفات، فضلا عن كونها تترجم حسا شعريا بالوجود، تحوم حول معاني مقررة في الإرث الحكمي والنصوص الدينية على اختلافها. من هذه المعاني ما يُفهم من قوله عز وجل، في سياقنا الإسلامي، "الرحمن علم القرآن، خلق الإنسان علمه البيان"، حيث يُعرّف القرآن الكريم الإنسان بأنه "كائن بَيانِيّ"، أودع الله فيه خاصية التَّبيين والتَبيُّن، وأن هذه الخاصية هي جوهر يتميز به كمخلوق عن سائر المخلوقات الأخرى. فالكائن البياني يتبين أن الكون يسير وفق نظام محكم، الشمس والقمر فيه "بحسبان"، والسماء رفعت ب"ميزان". حين نصغي إلى اللغة وهي تتكلم، ندرك أن التقنية والتكنولوجيا والمنظومة الفلسفية التي تنتجها، تدخل في مضمار العقل، وأن العقل، كما تتحدد معانيه في اللغة الصينية مثلا، ليس جوهرا قارا، بل فعلا من الأفعال التي يأتيها الإنسان؛ أو فعل تَعَقُّل، كما يتحدد معناه في اللغة العربية، يكون المبتغى منه عقل الأشياء والانتقال بها من مضمار "الهوامل" إلى "الشوامل". وحين نحسن الإصغاء إلى هذه اللغة نجدها تتحدث عن مرادفات أخرى لهذا الفعل، كفعل النَهْي المنوط ب"النُهى"، والمقصود به نهي الإنسان عن التمادي في الغي والضلال والخطأ والطغيان في الميزان؛ وفعل الحجّ المنوط ب"الحِجى"، والمقصود به ممارسة ضروب من الجولان الفكري خارج حدود الأنساق المعلومة طمعا في توسيع أفق الإدراك. كل إبداعات الإنسان الفلسفية ومبتكراته التقنية والتكنولوجية تدخل في خانة ما يقوم به العقل أثناء محاولته تعقّل العالم بغرض إعادة تركيب بعض أجزائه قصد تحريك رحى المعيشة؛ إلا أن الإنسان لا يعيش بهذا العقل فحسب، وإلا صار ذا بعد واحد، كمن يرى الوجود من ثقب الباب. فالأصل أن لهذا الإنسان، فضلا عن العقل، "نُهى" و"حِجى". يكفي أن نقف عند مدلولات هذه المرادفات، كما تحددها اللغة، كي نتبين الطريق إلى ثقافة توازن بين الحاجة إلى التكنولوجيا والحاجة إلى الطبيعة. في الختام، نُذكِّر بما جاء في حديثنا من تأكيد على أنه ليس للإنسان عن الطبيعة المعطاة عوض ولا له عن الوجود الموهوب مندوحة. هذا ما لا يفوت الكائنَ البياني إدراكُه. ذلك أنه كائن ينهل من ثقافة يرتبط فيها الحس الشعري اللغوي بالشعور بالوجود في العالم. أما حين يسقط الإنسان في أسر خطاب تقني تكنولوجي يوهمه بالقدرة على برمجة أنواع من الوجود، فعندها يسقط في الغفلة وتتقطع صلاته بالوجود الأصيل. وعليه فإن الاعتراض يكون لا على التكنولوجيا بوصفها أداة في يد الإنسان يُسخّرها لبلوغ التمتع والاستقرار في الطبيعة، بل على الخطاب التكنولوجي الذي أصبح همه التسويق لأنواع من الوجود المبرمج، الأمر الذي أصبح يزيد الكائن اغترابا في الكون.