هل تحول الإعلام الفرنسي العمومي، وتحديدا قناة فرانس 24، إلى ناطق رسمي بلسان الجماعات الإرهابية في منطقة الساحل؟ وهل يرعى القطب العمومي الفرنسي الموجه إلى الناطقين باللغة العربية الإرهاب من خلال التطبيع مع زعماء القاعدة في منطقة الصحراء الكبرى، وتقديمهم على أنهم أصحاب رؤية سياسية يشاركون في تأثيث النقاش العام في إحدى أكثر البؤر الإرهابية توترا عبر العالم؟. مناسبة طرح هذه الأسئلة هو نشر قناة فرانس 24، الممولة من دافعي الضرائب الفرنسيين، حوارا صحافيا وصفته ب"الحصري"، أجراه مراسلها وسيم نصر مع الإرهابي أبو عبيدة بن يوسف العنابي، خليفة الجزائري عبد المالك دروكدال في زعامة ما يسمى تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي. والمؤسف أن قناة "فرانس 24" بثت هذا الحوار دون أن تسدل أي وصف "يحيل على الخلفية الإرهابية لزعيم القاعدة في منطقة الساحل والصحراء"، كما لم تنشر أي إشارة لإثارة انتباه المشاهد إلى ضرورة التعاطي بحذر شديد مع تصريحات زعيم تنظيم إرهابي، بل سقطت في فخ التطبيع مع الإرهاب والإساءة بجهل أو ربما بدونه للدين الإسلامي عندما قدمت مراسلها وسيم نصر على أنه خبير في "الحركات الجهادية" وليس "الإرهابية". لسان الشيطان! عندما أعلن جاك لانغ، رئيس معهد العالم العربي بباريس ووزير الثقافة الفرنسي السابق، عزمه إصدار مؤلف بعنوان "اللغة العربية.. كنز فرنسا"، ثارت حفيظة الفرنسيين وانبلج العنصريون من أكمتهم السوداء يهاجمون اللغة العربية وليس مؤلف الكتاب الفرنسي الجنسية. فقد وصف إيريك زمور لغة الضاد وقتها في حوار تلفزيوني بأنها "لغة الإسلاميين الإرهابيين". وإذا كانت النخبة الفرنسية انتفضت ضد كتاب يقدم اللغة العربية كجزء من الثراء اللغوي الفرنسي، ووصفتها بلغة "الإرهابيين"، فلماذا تعمد فرنسا الرسمية اليوم إلى محاورة الإرهابيين، وإعطائهم مساحة كبيرة في الفضاء الإعلامي العمومي لبسط وجهات نظرهم المسرفة في تقويض الدول وهدم الاستقرار وترويع الأبرياء؟. والمثير حقا أن قناة فرانس 24 قدمت أبو عبيدة العنابي مجردا ومتنصلا من كل سجايا الإرهاب الدامسة، ومن كل الخلفيات المتطرفة الغاشمة، بل أسرفت، من حيث لا تحتسب، في تقديمه "كرجل تواصل بامتياز"! عندما ادعى مراسلها وسيم نصر بأن هذا الإرهابي كان متجاوبا إلى أبعد الحدود، ورد على جميع الأسئلة السبعة عشر باستثناء ما قال إنه "نصف سؤال" استنكف عن الرد عليه. مثل هذه التوصيفات الموغلة في السطحية والشعبوية من شأنها أن تقود المشاهد العادي إلى التماهي مع الرسائل المبطنة التي تسعى إلى تثبيتها الجماعات الإرهابية في عقل المتلقي، كما بمقدورها أن تفرز حالة من التطبيع اللاإرادي مع الخطاب الإرهابي، من خلال تقديم زعماء وأعضاء هذه التنظيمات وكأنهم "أصحاب رسالة سياسية مختلفة يجب قبول الحوار معهم في إطار تدبير الاختلاف وعدم إقصاء الآخر". وما قامت به يوم أمس قناة فرانس 24 يحيلنا بالضرورة على تجارب إعلامية مماثلة، كانت موضوع مؤاخذات واتهامات خطيرة؛ فعندما نشرت قناة الجزيرة القطرية تصريحات حوارية لزعيم تنظيم القاعدة السابق أسامة بن لادن، في أعقاب أحداث الحادي عشر من شتنبر 2001، اتهمتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش ب"العداء لحكومة الولاياتالمتحدةالأمريكية وتعريض أمنها للخطر". وحتى بريطانيا، التي يعتبرها الكثيرون مهد الديمقراطية في تجلياتها الراهنة، كانت متشددة في نشر وتعميم المحتويات الصادرة عمن تعتبرهم "إرهابيين" حسب قانونها الداخلي. فقد منعت الحكومة البريطانية سنة 1988 القنوات الإعلامية البريطانية من نشر آراء وتصريحات قادة وأعضاء الجيش الجمهوري الأيرلندي، وجبهته القانونية المعروفة وقتها بحزب "شين فين"، كما حظرت كذلك إذاعة وبث مواقف المنظمات شبه العسكرية البروتستانتية. دعاية إرهابية برعاية فرنسية من يطالع الأجوبة التي نشرتها قناة فرانس 24 نقلا عن الإرهابي الجزائري أبو عبيدة العنابي، زعيم ما يسمى تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"، سوف يصاب بالذعر والتوجس مما يمكن اعتباره "مخططا فرنسيا لتقويض إفريقيا بالأعمال الإرهابية"!. ذلك أن توقيت نشر قناة فرانس 24 هذه التصريحات المنسوبة لهذا القيادي الإرهابي الملطخة يديه بدماء الأبرياء في إفريقيا جاء متزامنا مع زيارة الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون إلى القارة الإفريقية مبشرا بدبلوماسية جديدة! يبدو أن أولى تباشيرها وطلائعها لاحت في الأفق القريب، وهي الدعاية للإرهاب في البلدان الإفريقية. فكيف يفسر الإعلام العمومي الفرنسي التصريحات التي قال فيها أبو عبيدة العنابي: "إن القيادات الغربية تعرف وتعي ما هي أهداف جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، وتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، فهي تركز على القتال في إفريقيا ولم تجهز لأي عمليات في الغرب أو على الأراضي الفرنسية". والأخطر من كل هذا أن قناة فرانس 24 شددت على أن مراسلها وسيم نصر أكد بشكل قاطع هذه التصريحات التي "تقصي المصالح الفرنسية من هذه التهديدات الإرهابية". والمتمعن في هذه التصريحات يدرك جيدا أن فرنسا الرسمية قررت نشر تصريحات العنابي عندما وجدتها تنثر رسائل الود لفرنسا والغرب وتحصنهما معا من الضربات الإرهابية! وفي المقابل، ارتأت قناة فرانس 24 الدعاية للتهديدات الإرهابية الصادر عن أبو عبيدة العنابي مادامت موجهة فقط إلى البلدان والشعوب الإفريقية، وكأنها شعوب ليست بحاجة للأمن والاستقرار!. فهل تمرير الخطاب الإرهابي مدسوسا في مساحيق إعلامية، تنزع عنه طابعه الإجرامي الغاشم، وتقدمه في حلة الخطاب السياسي المختلف، هو جزء من الدبلوماسية الجديدة التي بشر بها إمانويل ماكرون الشعوب الإفريقية في حواراته الأخيرة؟ وهل تبني تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي العمل الإرهابي ضد إفريقيا، ومهادنة فرنسا والغرب، تجعل هذا التنظيم محط ترحيب في قنوات فرنسا الرسمية؟. من المؤكد أن قناة فرانس 24 ارتكبت جريمة شنعاء في حق الشعوب الإفريقية وهي تتبنى مواقف تنظيم القاعدة التي تتوعد أمن واستقرار البلدان الإفريقية؛ فنشر مثل هذه الدعايات المجانية أو الموجهة لا يشكل فقط خرقا لدليل وسائل الإعلام في مواجهة أعمال الإرهاب، الذي أصدرته منظمة اليونسكو، بل يشكل تمجيدا للأعمال الإرهابية التي تستهدف بشكل حصري البلدان الإفريقية ولا تنتقل إلى الغرب وفرنسا تحديدا. كما أن الدعاية لمثل هذه التصريحات الإرهابية يضرب في العمق التنمية المستدامة للشعوب الإفريقية التي تكافح من أجل ضمان الرفاهية والاستقرار. فالترويج الفرنسي لمخططات أبو عبيدة العنابي الإرهابية هو تهديد جدي للسياحة الإفريقية، وهو تقويض حقيقي لمساعي جلب الاستثمارات للقارة السمراء، وهو استهداف ممنهج للأمن والتنمية بهذه البلدان!. فهل نحن أمام منعطف جديد في الإعلام العمومي الفرنسي، من إعلام موجه ينشر الأخبار الزائفة لابتزاز الدول، مثل "مزاعم بيغاسوس"، إلى إعلام منذور للموت يلهج بلسان الشيطان والإرهاب؟.