ما هي الدراما التاريخية؟ وما موقع التلفزيون في المغرب منها؟ الدراما التاريخية هي جنس الدراما الذي يتطرق لمواضيع من الماضي. وغالبا ما تطرح صراعا ساد خلال زمن تاريخي معين أو تعرض تفاصيل سيرة شخصية ذات وزن تاريخي. وطبيعي أن الدراما التاريخية تتقيد في ما تقدمه من أعمال بما جاء في سجلات التاريخ المدون، في حين أن الفانتازيا التاريخية تقدم عملا تطرح من خلاله رؤية متخيلة لوقائع حدث أو عصر تاريخي أو مفترض. ومن حيث تعاطي العمل الدرامي مع التاريخ، يرى كبار منظري الدراما التاريخية أنه ليس مطلوبا من الدراما أن تعيد كتابة التاريخ بصورة حرفية، وإنما أن تبحث في معناه وتنقب في ما وراء هذا المعنى. وبذلك فإن الدراما التاريخية هي نوع من العمل الفني الذي يتناول تاريخا ما، وليست عملا تاريخيا خالصا في قالب فني. يتضح من خلال هذا التقديم مدى صعوبة الخطوة الأولى في إنتاج الدراما التاريخية، وهي التي تتعلق بكتابة العمل. فالمؤلف يكون مطلوبا منه—في نفس الوقت—القيام بدور المؤرخ وكاتب القصة والسيناريو. وهي مهمة عسيرة تتطلب جهدا كبيرا وحذرا —أقرب إلى السير في حقل ألغام —في نقل مجريات التاريخ من الكتب إلى الشاشة. وأما الخطوة الثانية —أي الإنتاج— فتعد أكثر صعوبة، إذ تعترض إنتاج الدراما التاريخية مجموعة من الصعوبات، تجعله أكثر أجناس الدراما تعقيدا وأقلها إقبالا من طرف المنتجين والمخرجين. فعكس ما هو عليه الأمر بالنسبة للدراما الاجتماعية، مثلا، تشترط الدراما التاريخية توفر إمكانات مالية ضخمة لبناء الديكورات وصنع اللباس، وصولا إلى تجنيد جيش كامل من الممثلين والكومبارس، وفريق كبير من التقنيين، إلى غير ذلك من الوسائل البشرية واللوجيستية الضرورية لإنتاج العمل التاريخي. ولأن الاقبال على الدراما التاريخية يكثر في شهر رمضان على وجه الخصوص، فإن حصيلة القنوات المغربية منها كل عام تكون سلبية. وبالمقابل، تسيطر العقلية التي تصر على إيلاء أهمية مبالغ فيها لإضحاك الصائم المغربي على مائدة رمضان، والدراما الاجتماعية التي ليست في الواقع سوى "مسرحيات خارجية". وهو ما يحمل الجمهور العاشق للدراما التاريخية —الذي يمثل شريحة واسعة من كل الأعمار— على "الهجرة" إلى فضائيات أجنبية، توفر له أحدث ما تم إنتاجه من روائع الدراما التاريخية السورية والمصرية الأردنية والكورية والصينية. إن هذا الاغتراب بقدر ما يحقق للمشاهد متعة الفرجة والتسلية، ينعكس سلبا حين يبلغ الانبهار ببطولات الآخر وبالصورة المثالية التي يظهر عليها في العمل الدرامي للمشاهد المغربي. فكثيرون من بني جلدتنا يتملكهم الشعور بالدونية أمام الآخر، بعد مشاهدتهم لمسلسل تاريخي تركي، مثلا. والحال أن تاريخ المغرب البعيد والقريب غني بالشخصيات والحوادث العظيمة، التي تستحق أن تتحول إلى مواضيع درامية يمكن تسويقها للخاج. لكنه تاريخ ما يزال حبيس الكتب الأكاديمية، في غياب رؤية مدركة لأهميته البالغة في تربية الفرد على قيم حب الوطن والاعتزاز بالجذور. وأيضا في تسويق صورة ماضي المغرب العظيم والمشرق للآخَر. أعرف عن قرب حالة صديق صَدّق منذ 15 سنة حكاية كون الدراما المغربية تعاني من "أزمة نصوص". فتفرغ لأربع سنوات من عمله الصحفي، ليكتب سيناريوهات أعمال تاريخية، بينها مسلسل حول الدولة السعدية وآخر حول السلطان مولاي إسماعيل، وسلسلة حول أحد أبرز المهمشين في تاريخ المغرب. وكانت البداية بمشروع الموسم الأول من تاريخ الدولة السعدية (من بداياتها حتى اغتيال السلطان السعدي الشهيد محمد الشيخ المهدي على يد عملاء بعث بهم السلطان العثماني سليمان القانوني). بحث المؤلف طويلا في عشرات المصادر المغربية والأجنبية، لوضع الإطار التاريخي للعمل، منتبها إلى كل صغيرة وكبيرة بأمانة المؤرخ وخيال المؤلف. ثم شرع في التأليف، وكانت البداية بحلقتين نموذجيتين épisodes pilotes جاهزتين للتصوير، كما يقتضي العرف. لكنه صُدم عندما أخبره منتجون ومخرجون بأنه لا مجال لإنتاج العمل في المغرب، لكونه يتطلب "ميزانية ضخمة". ونصحوه بأن يجرب حظه مع فضائيات عربية كبرى... فاقتنع هذا المؤلف المغربي بمرارة بأنه إنما كان يحرث رملا. فجمع أوراق مشروعه الموؤود وهي بالمئات، ووضعها في علب اكتفى بتركها للإهمال في جانب من خزانته، بعدما عز عليه حرقها. وعندما قبل على مضض أن يطلع العبد لله على مسودة مشروع المسلسل الذي لم يكتمل، اندهشت لحجم الجهد المبذول في جمع أدق التفاصيل التاريخية وبناء الشخصيات، وإلباس الدراما الحركة l'action الكفيلة بشد انتباه المشاهد. ثم عاد هذا الكاتب الصديق، الذي لم يعد يرغب في مجرد العودة للحديث حول الكتابة للتلفزيون والسينما في هذا البلد السعيد، مُحبَطا إلى ممارسة عمله الصحفي من جديد، ولسان حاله يردد بمرارة: «أزمة سيناريو، قالوا!». وليس هذا المثال حالة يتيمة، للأسف. فثمة حالات أخرى لأعمال تاريخية مغربية لا تتطلب توفر "ميزانيات ضخمة" جرى رفضها في ظروف غامضة، بينما تم قبول مشاريع أخرى ظهر مستاواها عند عرضها... والحديث ذو شجون. فهل يتطلب إنتاج دراما تتناول التاريخ المغربي تسول فضائيات أجنبية؟ أم إن مبرر "الميزانية الضخمة" ليس سوى شجرة يراد لها أن تخفي غابة من الأسئلة الحارقة؟؟