إحسان الفقيه* في آذار/مارس الماضي شهدت مدينة «الجهراء» الكويتية، أغْرب عزاءٍ من نوعه، لم يكن من أجل موت زعيمٍ أو أحد النُخب الدينية أو السياسية أو الثقافية...، بل لرجلٍ لم يروه إلا على شاشات الفضائيات. «عزاءُ قبيلة «الكايي»....، انتقل إلى رحمة الله تعالى «بامسي». «أرطغرل» لا تصالح، وأشهد أنك فقيده يا بامسي». تلك العبارات كُتبت على لافتة كبيرة بالمدينة الكويتية، عقب انتهاء الحلقة التاسعة والسبعين من المسلسل التركي «قيامة أرطغرل»، وكان مشهدها الأخير يتضمن تعرُّض المحارب «بامسي» لضربات قاتلة من خصْمه، فظن كثير من المشاهدين أنه قتل. هذا الموقف الغريب أحد مظاهر التفاعل العربي مع ذلك المسلسل الذي صار حديث الجماهير العربية والإسلامية، ولا أبالغ إن قلت إن ذلك التفاعل العربي مع هذا العمل التاريخي الضخم، ربما كان سبباً من أسباب النجاح الساحق له في تركيا نفسها. يظهر ذلك التفاعل العربي في عدد المشاهدات بالعالم العربي، حيث وصل عدد مشاهديه على (يوتيوب) في آذار/مارس الماضي إلى 200 مليون مشاهد، ويترقَّب المشاهدون العرب حلقات المسلسل الذي يذاع في تركيا الأربعاء من كل أسبوع، ويقوم بعض النشطاء بترجمته وتنزيله على (يوتيوب) في اليوم التالي مباشرة. المسلسل يُعدُّ مادةً خِصْبة تناولَها الإعلاميون العرب في البرامج التلفزيونية وأشْهَر الصحف والمواقع العربية على الشبكة العنكبوتية، إضافة إلى مسارعة الدول العربية في عَرض المسلسل مُترجماً أو مُدبلجاً. وظهر ذلك التفاعل العربي في ذلك الحشد الهائل من صور أبطال المسلسل التي استبدلها كثير من الشباب العربي بصورهم الخاصة على الفيسبوك وتويتر، كما أصبحت مفردات اللغة التركية في المسلسل شائعة على لسان العرب، إضافة إلى تداول الحديث عن المسلسل بالتغريدات والتدوينات والتعليق عليها من قبل الشباب العرب، بل ظهر ذلك في الشعر العربي، حيث ألقى الشاعر القطري «ناصر الوبير» قصيدة تُبرز خصال أبطال المسلسل. ولم يكن التفاعل على المستوى الشعبي فحسب، وإنما على المستوى الرسمي كذلك، حيث زارَ الوفدُ المرافق للملك سلمان في زيارته الأخيرة لتركيا، موقعَ التصوير والتقطوا صوراً تَذْكارية مع أبطال المسلسل. كما كان لهذا العمل الدرامي حضور خلال الجولة التي أجراها الرئيس التركي مؤخراً في دول الخليج، وعزفت (الأوركسترا) الملكية بالبحرين شارة مقدمة المسلسل على شرف أردوغان، والذي أولى المسلسل عناية خاصة، ظهر ذلك في تعليقه وإطرائه على هذا العمل، وزيارته موقع التصوير مع عدد من رجاله. ربما يعترض بعض القرّاء بأن المسلسلات التركية لاقت روَاجًا كبيراً في الوطن العربي قبل مسلسل «أرطغرل»، كان أشهرها «حريم السلطان»، نقول: نعم الدراما التركية شقَّت طريقها في العالم العربي منذ سنوات، ولكن ليس على هذا النحو الحالي، ويكفي للدلالة على ما نقول، أن هناك شريحة جديدة التحقت بركْب المتابعين لهذا العمل لم تكن موجودة من قبل، وهي شريحة المتدينين الذين كانت لهم تحفُّظَات على متابعة الدراما، إلا أن هذا العمل بما فيه من قيم إسلامية أصيلة، وخُلُوّه ممّا يخْدِش الحياء، والتصاقه بتعاليم الإسلام، كل ذلك جعل طبقة المحافظين والمتدينين لا تجد حرجاً في متابعته، خاصة في ظلّ غياب البديل. هذا التفاعل العربي مع «قيامة أرطغرل» له دلالات عدة: أولها: ظَمأ الجماهير العربية إلى الدراما الهادفة، فقد مَلَّ الناس من الأعمال المُبتذَلة، وتكرار المشاهد التي تذبح القيم والأخلاقيات، في ظلِّ نُدْرة الإنتاج الهادف، ولذا لاقَى مسلسل عمر بن الخطاب الذي عرض في رمضان 2012م، نجاحاً كبيراً. الناس يتطلَّعون إلى أبطال من بني جِلْدتهم، في غير المعروض من دراما الغرب، التي تُبالغ في تجسيد بطولاته، ويكفي أن هوليود قد رسمت صورة ذهنية للجندي الأمريكي عند العرب لا تتناسب إطلاقاً مع إِخْفاقَاته في عدّة حروب خاضَهَا. هذا العمل التركي يلْفِت إلى ضرورة البدء في خطِّ إنتاج للدراما الهادفة، التي تُشبع وجْدان الشعوب العربية بأقْباسٍ من تاريخها الصحيح، إضافة إلى الأعمال الإبداعية القائمة على خيال الروائيين وكُتَّاب (السيناريو)، شرط أن تتحول إلى دراما هادفة تُترجم المنظومة الأخلاقية والقِيمية التي قامت عليها أُمَّتنا. ثاني هذه الدلالات، هي النظرة العربية العامة للتاريخ التركي، فمن سلِم من دعوات القومية، يرى في التاريخ العثماني حِقبة إسلامية، اجتمعت فيها الدول العربية على راية جديدة تسلّمت مِشعل حضارتها، وأن العرب قد منحوا العثمانيين وأخذوا منهم. أوصلوا إليهم لغة القرآن حتى قبل تكوين إمبراطوريتهم الواسعة، فقبائل «القرة خانيون» التركية التي اعتنقت الإسلام في القرن التاسع الميلادي، اعتمَدتْ كتابة اللغة التركية بالأحرُف العربية على مدى ألف عام، وكتاب «ديوان لغات الترك» للمؤلف التركي «محمود الكاشغري» عام 466 ه، يكشف مدى ارتباط الأتراك بلغة العرب – باعتبارها أحد أحجار الزاوية في المكَوِّن الثقافي للأتراك- وارتباطهم بالعلماء والمفكّرين العرب من خلال الزيارات والترجمة. كما اعتبر العثمانيون أنفسهم حُماةً للوطن العربي الإسلامي، وقاموا بصَدِّ الحملات البرتغالية والمدِّ الصفوي والصليبي ودفْعِهم عن الجزيرة العربية ومنطقة الشام والشمال الإفريقي. فلم يكن العرب ينظرون إليهم على أنهم غزاة مستعمِرون، ويظهر ذلك فيما ذكره المؤرخون من استنْجاد المصريين بالسلطان سليم الأول لتخليصهم من الجراكسة. من ناحية الإخراج والصنعة، هناك أعمال تاريخية غربية كثيرة تفوق هذا المسلسل، لكننا لم نشهد هذا التفاعل الذي نراه مع مسلسل أرطغرل، وذلك للمُشتركات الحضارية والتاريخية بين العرب والأتراك. آخر هذه الدلالات، أنه يعكِس مدى تأثير القوة الناعمة التركية في العالم العربي، المتمثِّلة في الدراما التركية التي غزَتْ الوطن العربي الإسلامي، ووجد فيها العرب قطعة من تراثهم. ولذا نستطيع القول إن الوجهَ الجديد للدراما التركية الذي يقوم على إحياء التراث العثماني ورَبْط الأتراك والعرب به، يتناغم مع سياسة الأتراك الجديدة تجاه الوطن العربي، الرامية إلى العودة بتركيا إلى أحضان العالم العربي الإسلامي. المسلسل قد تم توظيفه سياسياً بامتياز – ولا غضاضة – بما يدفع في اتجاه التقارب التركي العربي، ولذا أقْحَم السياق الدرامي شخصيات عربية أزعم أنها جاءت لهذا الغرض، وربما انعكست تلك النظرة على أبطال المسلسل حين صرحوا بأن هدفهم أن يشاهده العرب والمسلمون قبل غيرهم. كاتبة أردنية