مع إشراقة كل يوم جديد، يجد البريطانيون أنفسهم أمام جولة جديدة من نقاشات لا تنتهي، في إطار مسلسل سياسي مثير، عنوانه الأبرز لعبة الخروج/البقاء في الاتحاد الأوروبي. ما بين تصريحات السياسيين الحذرة، وخطابات البرلمانيين الحماسية، وتحذيرات الاقتصاديين المستهجنة، ونتائج استطلاعات الرأي المتضاربة، وتقارير مكاتب الدراسات ومجموعات التفكير المتباينة، وتهافت الصحفيين على الخبر/السبق، يعيش البريطاني على إيقاع ترقب استفتاء يقرر مصير بقاء أو خروج لندن من الاتحاد الأوروبي، وكأنه سيجري غدا. آخر حلقات هذا المسلسل الطويل، جاءت الأربعاء الماضي، بعد إعلان وزير الاقتصاد والمالية جورج أوزبورن أن بلاده ستغادر الاتحاد الأوروبي ما لم يبادر هذا الأخير بعملية إصلاح هياكله وتشريعاته، مؤكدا على أن الاتحاد يواجه خطر الانهيار والانحدار نحو الهاوية في حال رفضه هذا التغيير. وقبلها بأسبوع، تصدر المشهد الإعلامي، نبأ تقديم نحو 95 برلمانيا ينتمون إلى حزب المحافظين الحاكم طلبا لرئيس الوزراء ديفيد كاميرون يدعونه لمنح البرلمان حق النقض (الفيتو) على القوانين الحالية والمستقبلية للاتحاد الأوروبى، تحت ذريعة "حماية المصالح الوطنية البريطانية". وبالرغم من أن وزير الخارجية ويليام هيغ بادر إلى رفض هذا الطلب جملة وتفصيلا، فإن الصحف البريطانية كانت حريصة على وصفه بأنه أمر "غير واقعي" ولا يعدو أن يكون مظهرا من مظاهر "تخاريف السياسيين". ومع بداية السنة الجديدة، اشتعلت الساحة السياسية والإعلامية مرة أخرى، بسبب المخاوف من تدفق كبير للمهاجرين القادمين من بلدان أوروبا الشرقية نحو بريطانيا، ولاسيما بعد إلغاء الحواجز التي كانت مفروضة على حرية عمل البلغار والرومانيين بعدد من بلدان الاتحاد الأوروبي . ووصل النقاش إلى مستوى ملتهب دفع ديفيد كاميرون إلى إصدار قانون يمنع هؤلاء الوافدين الجدد من الحصول على أي تعويضات اجتماعية إلا بعد مرور ثلاثة أشهر على استقرارهم ببريطانيا، فيما كان وزير العمل والمعاشات إيان دونكان سميث أكثر تطرفا حيث طالب بحرمان المهاجرين المقيمين ببريطانيا من حق الحصول على التعويضات الاجتماعية إلى حين مرور سنتين على إقامتهم الدائمة بالبلاد. وقد وجدت وسائل الإعلام ساعتها ضالتها في هذا الاقتراح، الذي شكل مادة دسمة، لتأجيج نيران النقاش مرة أخرى، بالرغم من معارضة عدد من القياديين بالحكومة للفكرة بسبب تعارضها مع القوانين الأوروبية مما يجعل تطبيقه مرتبطا بدفع بلدان الاتحاد الأوربي السبعة والعشرين على القبول به واعتماده أو الخروج من الاتحاد نهائيا. وحرصت مؤسسات استطلاع الرأي من جانبها على إذكاء جذوة النقاش والارتقاء به إلى أعلى درجات التصعيد، حين كشفت أن نحو ثلث البريطانيين فقط يؤيدون بقاء بلادهم ضمن حظيرة الاتحاد الأوروبي. وأوضحت الاستطلاعات التي تم إنجازها خلال الأيام الأخيرة تراجعا حادا في مستوى تأييد البريطانيين لاستمرار عضوية لندن داخل الاتحاد الأوروبي، مشيرة إلى اتساع الفارق بين المؤيدين للانسحاب من الاتحاد الأوروبي (50 بالمائة) والراغبين في البقاء (33 بالمائة)، إلى 17 بالمائة، بعد أن بلغ واحدا بالمائة فقط في يونيو الماضي. وفي ظل حمأة النقاشات واشتداد ردود الفعل الغاضبة من هنا أو المحتدة من هناك، فإن الأكيد أن مسألة البقاء أو الخروج من الاتحاد الأوروبي، مازالت في حكم المشروع، ومازال أمامها أسابيع عديدة قبل اعتماد القانون الخاص بتنظيم الاستفتاء المرتبط بهذا الموضوع. علما، بأن أعضاء حزب العمال المعارض وحزب الليبراليين الديمقراطيين الشريك الأصغر في الائتلاف الحكومي، وبعضا من أعضاء حزب المحافظين الحاكم المعروفين بمواقفهم المؤيدة لأوروبا يبذلون كل ما في وسعهم من أجل عرقلة مسيرة إقرار المشروع. ويشير المراقبون إلى أن بعض السياسيين من "محبي العملة الأوروبية الموحدة" قد يفلحون في مساعيهم هاته. مبدئيا، أعلن رئيس الوزراء وزعيم حزب المحافظين ديفيد كاميرون، منذ شهور، عن إجراء الاستفتاء سنة 2017 ، غير أنه وضع لذلك شروطا أولها الشروع في مفاوضات لإعادة رسم العلاقات بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، في أفق استعادة لندن جانبا من الصلاحيات ولاسيما في مجال الهجرة وحقوق الإنسان والاقتصاد، وثانيها وأهمها على الإطلاق، هو فوزه في الانتخابات التشريعية المزمع إجراءها سنة 2015. في هذا السياق، تجمع استطلاعات الرأي، التي تعد اختبارا يوميا في بريطانيا، على أن حزب العمال المعارض، بقيادة إد ميليباند، والمؤيد القوي لبقاء لندن ضمن الفضاء الأوروبي، سيفوز في الاستحقاق المقبل وبفارق مريح يصل أحيانا كثيرة إلى أكثر من سبعة بالمائة من نوايا التصويت، وينزل مرات نادرة إلى ثلاثة بالمائة من آراء المستجوبين. وبالرغم من إعلانه عن تنظيم الاستفتاء، وسعيا منه لإرضاء الجميع، فإن ديفيد كاميرون أكد غير ما مرة أنه متشبث بالبقاء ضمن الفضاء الأوروبي. وإذا كان المتتبعون يعتبرون أن زعيم المحافظين سعى من خلال اللعب على ورقة الاستفتاء، إلى استمالة الجناح المتطرف في صفوف الحزب والمعروف بمواقفه المناوئة لأوروبا، فإن فوزه في الانتخابات الأوروبية المقبلة، والتي ستجري في غضون أربعة أشهر، وضمان الانتصار في الانتخابات التشريعية لسنة 2015 ، رهينان بقدرته على لجم هذه الفئة. لاسيما وأن حزب رئيس الوزراء فقد أزيد من ثلث كتلته الناخبة، بسبب تصاعد موجة التأييد لحزب استقلال المملكة المتحدة اليميني المتشدد المعروف بمواقفه المناوئة لأوروبا. وتشير استطلاعات الرأي، في هذا السياق إلى احتلال حزب المحافظين المرتبة الثالثة في هذه الانتخابات الأوروبية المقبلة خلف كل من حزب العمال وحزب استقلال المملكة المتحدة، فيما سيحل حزب الليبراليين الديمقراطيين رابعا بفارق كبير عن الصفوف الثلاثة الأولى. وكانت الانتخابات الأوروبية لسنة 2009 قد شهدت انتصارا مدويا للمحافظين، وهو ما شكل بحسب المراقبين تمهيدا لانتصاره في الانتخابات التشريعية التي جرت سنة 2010 . وإذا ما اعتبرنا أن فشل حزب ديفيد كاميرون في الانتخابات الأوروبية مجرد (بروفة) لفشل منتظر في استحقاقات 2015 ، فحينها سيكون مشروع الاستفتاء وكل اللغط المرتبط به في خبر كان. *و.م.ع