هل يمكن المجازفة بالقول إن كل أدب يتقصد الاحتفاء بقيم الجمال، والعدل والحرية، وينتسج بناء لغويا استعاريا باذخا مكرسا لغد مأمول أقل بؤسا، وماض ذهبي تغذيه نوستالجيا الفقد والطفولة الرائقة، أدب يعبر عن الرغبة المشتعلة في السلام والسكينة والطبيعة ومدح الإنسان، بما هو كينونة وجودية أرقى، وانوجاد انطولوجي عليه العِوَلُ في تأثيث الكون بنعمة الحلم، وزخرفة الحياة بالخضرة الدائمة، ونشيد الحب الأبدي؟ أدب كهذا تحققت فيه وبه المقومات المذكورة؛ هل يمكن نعته بالأدب الرعوي؟. أما نتوء التيمات الرعوية، فندرك أنها صارت إلى إمحاء، واختفاء، وتحول بالمعنى الأوفيدي. إنه المحو الذي هو شغل الكتابة الشعرية التي تترك بالضرورة بصماتها وآثارها، ولكن التي تمنح القراءة أثر صمت ما، ومن هذا الصمت يأتي جزء من الجاذبية الآسرة للكتابات الرعوية، ولكل كتابة تهفو إلى التحرر من النموذجية والنمطية، وتقيم عرسا لعوالم الطفولة المتواثبة، والحلم الضاحك !. فهل سَكَنَت هذه الروح أطواء الشعر العربي القديم، أو في الأقل، رَانَتْ على أخص نماذجه وشكلت أحد أبعاده؟ نبادر بالقول إن الشعر الجاهلي يهجس بتلك الروح، وينتصر للبساطة والحسية والفروسية أيضا، التي كانت أحد مقومات الرعوية في العصور الوسطى الأوروبية. كما أن قاع النص الشعري الجاهلي، عَبَّرَ بالمضمر كثيرا، وبالتصريح قليلا، عن حنين دفين، ونوستالجيا حارقة، وبكائيات مازالت تَرِن في سمع الأيام، تَوْقا ًإلى أيام ذهبية خلت، وتعلقا بنعيم ما فتئ الدهر يهدده بالزوال. وما النسيب والتشبيب، ووصف الرحلة.. وما يعترضها من أخطار، ويحدق بها من فجاءات وطوارئ، إلا تقليد رعوي صار إلى كتابة شعرية صاقبت بل تماهت مع الموجود، ووجود الشاعر نفسه، مستحضرة شواخص ترمز إلى زمن هارب، ومستدعية طيف المرأة، العذبة والشهية، خالعة عليها أجمل الأوصاف المادية تحديدا، ونائسة بين نصوص تقطر لذاذة، غِبَّ لقاء الشاعر بالحبيبة، ونصوص تَرْشَحُ أسى والتياعا، غِبَّ مسعى خائب. ولنا أيضا أن ننتبه إلى أن طبيعة الشعر الجاهلي هي طبيعة رعوية بحكم الجغرافيا، ومقتضى البداوة والقيم الخلقية. وأن أعلى نماذج الشعر الجاهلي (المعلقات أو المذهبات سيان)، مَجَّدَت الحب الشهوي باعتباره، أولا، اقتناصا للحظات ذهبية ماتعة، وباعتباره، ثانيا إشباعا لعطشين : عطش بيولوجي، وعطش روحي، به يعلو الشاعر على واقعه الآسن الصحراوي، ويتحرر من قبضة الأرضي، والزائل والمكرور. وقبل هذا وذاك، لم تكن الخمر، بما هي وجه آخر للانفلات من الشرط المادي، تعويضا أو بديلا للمرأة. كانت، وقد وَثَّنَها الشعر الجاهلي، وزادها توثينا أبو نواس فيما بعد، استكمالا للذاذات، وتحقيقا للفتوة والصبا أو التصابي، والدخول في طقس "أَرْكَادِي" حالم، لم يكن عدوه سوى الفجر القادم والمهرول بألف عين، وألف موعظة وتهديد بالويل والثبور، وبسحب الانتماء القبلي !. لقد كان الشاعر الجاهلي واعيا بمحدودية الفضاء على شساعته، وبضيق الأفق على تراميه ورحابته، فاختار عَامِدًا الذهاب إلى القصيدة، أي إلى الانفلات من أَسْرِ واقعه، والارتباط –في المقابل- باللغة، لغة أسلافه، مُحَقّقًا بصنيعه هذا، وجوده الرمزي، وخالقا، من ثمة، جنة محلوما بها، تتمظهر من خلال الحيوان رفيقا ومؤنسا وَصَفيِا، ومن خلال الصيد أُلْهِيَّةً، وتصابيا، وطفولة . هكذا نفهم رعوية الشعر الجاهلي، والأمثلة بهذا الصدد تسعفنا. فلا أقل من أن نشير إلى كتب "الجمهرات" و"المفضليات" و"الأصمعيات"، وغيرها، التي تحوي نصوصا، بل فصوصا من الزمرد، والياقوت، والماس، تَعَلَّقَها التلقي العربي –في الإبَّان- قبل أن يُكَرِّمُوا منتخبات منها بتعليقها على أستار الكعبة، أي على حيطان الخلود، والأبد السرمدي !. فإذا تخطينا الحقبة، توهج شعر الغزل العذري كالأسورة في يد الحسناء البضة. ونحن نعتبر أن الغزل العذري أو بعضا منه –في أقل تقدير- شعر رعوي في بنائه ووصفه وتيماته. فهو من حيث البناء اللغوي، يتسم بالعذوبة، والبساطة، والرقة كشعر، "ثيوكريت" théocrite، ومن حيث الوصف فمُكَرَّسٌ للمرأة- المثال. أما تيماته فأفلاطونية، عنوانها : الفناء في المعشوق، والموت، عديد المرات في اليوم، من أجل النظر إلى المحبوب، حتى لكأن الصوفية نهلوا من معينه، وَتَشَربُوا صبابات شعرائه وعذاباتهم، كل ذلك يؤطره فضاء إما صحراوي، أو واد ذو زرع، أو جبل شهد براءة الشاعر، والحبيبة وهما يرعيان الغنم منذ مطلبع الشمس إلى مغربها، ويلعبان بالحصى تزجية لوقت فارغ، ثم يخطان على نقا الرمل أحلاما، وغدا ذهبيا يتلامح في الأفق اللازوردي الأصفى من عين ديك. ثم تأتي الريح بغتة فلا تبقي خطوطا، ولا رسوما، فكأنما الريح نذير شؤم، وغراب بَيْنٍ يتعقبان الشاعر وصبيته. في كل هذا الشعر، كان الواقع المعطوب حاضرا بكل نتوءاته وتضاريسه، لكنه الحضور المؤسي المرفوض، وغير المرغوب فيه. وذلك واحد من مرامي الشعر الرعوي الذي حمل على عاتقه توجيه سهام النقد إلى الواقع فيما هو يتحلل منه، مبشرا بغد جميل، أو مستعيدا عصرا بعيدا وَلَّى، فيه ما يبعث السعادة ويُغْري بالاحتماء والإقامة. في العصر الحديث، وكنتيجة للاحتكاك بالغرب المتقدم، والتثاقف، أمكن للشعراء أن يقرأوا متون الآخرين بعيون مفتوحة، واستبصار أَلْمَعِي، فكان أن احتفى الشعر المهجري –فضلا عن رومانسيته- بالرعوية، مستبطنا رؤيتها ومخيالها، متيحا للشعرية العربية -ولأول مرة في تاريخها- الخروج من شرنقتها المُصْمَتة، وخيمتها البالية، بالتوجه السعيد رأسا، إلى الطبيعة الحالمة، مُهَلِّلاً – كطفل أعادوه إلى أبويه- بالضفاف، والينابيع والأودية والطيور، والأغنام، والمراعي، والبراري، والشجر، مخطوفا بلألاء النجوم، والسماء والخضرة، وَلُجَينْ الماء، وبهاء النساء. لقد ظل الشعر المهجري المحتفل بالطبيعة في غالبية نصوصه، يوقع عبر نماذجه المدهشة، نشيد العودة المرحة إلى حضن الشساعة، ورَحِمِ الرحابة، وأمومة الغاب، متلفعا بالبساطة والبراءة، والحلولية ضدا على مدنية إسمنتية يُسَوِّرُها الفجور، وَتَحُوطُها الشرور. ولنا في شعر جبران خليل جبران : (البدائع والطرائف – السابق - المجنون)، وفي شعر ميخائيل نعيمة : (همس الجفون، والنهر المتجمد)، ونسيب عريضة : (الأرواح الحائرة)، وإيليا أبو ماضي : (الخمائل والجداول)، ورشيد أيوب، وفي شعر رشيد سليم الخوري، المهجري الجنوبي المشهور بالشاعر القروي، لنا في متونهم الأساسية هذه، المثال الحي على المكون الرعوي مخلوطا –دون ريب- بالرومانسية. كما أن أبا القاسم الشابي يمنحنا سانحة الإدعاء بانتساب ديوانه الجميل والعذب : (أغاني الحياة)، إلى مجال الشعر الرعوي، وكذا الشاعر المصري محمود حسن اسماعيل : (أغاني الكوخ – وقاب قوسين). وتتيج بواكير بدر شاكر السياب الشعرية، القول برعوية شعره ورومانسيته في آن، قبل أن يضرب موعدا مع منجز شعري مغاير، فيدخل الشعرية العربية –من ثمة- وهي جذلى- إلى حرائق الشعر، وبهاء النشيد . في السياق إياه، نعطي الكلمة للناقد العراقي عبد الواحد لؤلؤة، وهو يضع اليد على رعوية السياب في بواكيره : "[حكاية (هالة) الراعية، واسمها الرعوي (هيلة) تضيف شذى إلى قهوة الرعيان، فيصغرونها للتحبيب (هُوَيْلَه)]. وهذه تجربة صادقة أخرى لا تزيد شرارتها عن تجربة (وفيقة) السابقة. لكنه –هنا- يقول لنا بكل براءة القروي : إنه كان يُقَبِّلُ الأغنام التي كانت (هالة) ترعاها في أنحاء (جيكور)، لأنه رأى راعيته تُقَبِّلُ تلك الأغنام، فراح الشاعر الفتي يبحث في الكأس عن فضل يناله : وقَبَّلْتُ حتى البُهْمَ لما رأيتها تُقَبِّلُ تلك البهم قبلة ثائر فقد اهتدي في قبلة إثر قبلة إلى أثر من ثغرها غير ظاهر وفي هذا أصداء من شعر مجنون بني عامر" (1). فلسطينيا، يتقدم المشهد الشعري، في نبضه وَسَمْتِه الرعوي، كل من محمود درويش، وسميح القاسم في أعمالهما الشعرية الأولى حيث الطزاجة، والطراوة، والغنائية المكرسة للأرض المسروقة، والفضاء المستباح. إن الاستقصاء العميق لعناصر الطبيعة الفلسطينية، واستدعاء عوالم الطفولة، وتنزيلها المنزلة الأسنى.. كطفولة منتهكة بانتهاك حقها في أرض آبائها، وجدها الأول كنعان، لهو –في نظرنا- وثيق الصلة.. متين السبب بالتجلي الرعوي، طالما أن الرعوية –كما ألحفنا- تدور على النص الشعري، كما تدور الخيوط على الوشيعة، وفي بالنا، تتداعى المجاميع التالية : أ أوراق الزيتون – عاشق من فلسطين – آخر الليل- العصافير تموت في الجليل.. إلخ لمحمود درويش. ب أغاني الدروب – قرآن الموت والياسمين – أحبك كما يشتهي الموت- جهات الروح.. إلخ، بالنسبة إلى سميح القاسم. لكن الشاعر الفلسطيني الأكثر احتفاء بالرعوية الزراعية.. الرعوي بامتياز هو: الشاعر عز الدين المناصرة، لأنه رَاوَدَ هذا الشكل الشعري، وَرَادَهُ، ثم بَاشَرَهُ ممارسة شعرية وتنظيرا، وبالتالي فإنه كشف عن مقصدية، ونية توجهتا نحو الرعوية. ولعل ذلك أن يحقق لشعره السبق، والتميز، والانتساب، بالقوة والفعل، إلى هذا الجنس التعبيري المفكر فيه. من هنا، فإن شعر المناصرة الرعوي غني بنفسه كشعر، وبالمعرفة التي يحملها في طياته للنوع إياه. بمعنى آخر، إن غناه مزدوج بجماليته المنبجسة من تشابك مستوياته اللغوية والإيقاعية والتصويرية ورؤياه، وبإحالاته الذكية المتخفية، والمنطوية على تراث ينحدر من ليل الحضارات، بكل العفوية والتلقائية الممكنة، ومن عهود الإغريق والرومان بعد أن عرف تقعيدا وأصبح معيارا على يد ثِيوكْريتْ وفِرْجِيلْ. إشارات : 1-عبد الواحد لؤلؤة : منازل القمر، دراسات نقدية، دار رياض الريس، الطبعة الأولى، أكتوبر 1990، ص :228.