هو أحد بناة صرح الحداثة الشعرية المغربية.. واحد من أفراد ذلك الرّعيل المستنير، الطّموح، والمتجاسر الذي سيحمل على عاتقه، عند نهايات العقد الخمسيني وبواكير العقد الستّيني من القرن الماضي، عبء انتشال التّعبير الشعري المغربي الحديث، سيّان من بين فكّي المؤسّسة الشعرية التقليدية الضّارية أو من بين الأنامل الرّخوة لمعتنقي إبدال شعري رومنتيكي كان قيد التّبلور في خمسينيّات القرن العشرين. ولأنّ كلّ شاعر و حافزيّاته الموجّهة ومصائره المسطورة فسيكون من مكرمات القدر الشخصي، وكذا الثقافي العامّ، أن يخوّل لشاعر كمحمد السرغيني، الذي تلقّى تربية لغوية وشعرية اتّباعية وشاكس الإبدال الشعري الرومنتيكي، مثل شعراء جيله، شاعر كان عالمه البدئي مجرّد حواري فاس القروسطويّة وزقاقاتها المتضايقة، الظّليلة، بينما شكّلت جامعة القرويين أفقه التّلقيني المتاح، كاريزما إبداعية فارقة.. وجها اعتباريّا مفلقا في القادم من سني عمره.. وبالتالي بصمة كتابيّة لا تشبهها، بقوة الفرادة، أيّما بصمة أخرى.. فمن ضفاف الأجروميّة والمعلّقات إلى فضاءات ابن سبعين وابن عربي.. من إغواء الشّعرية المهجرية إلى سطوة جيل 27 الإسباني ومنجزات الدّادائية والسّريالية وما بعد الحداثة.. من خالص الأدب، شعرا ونثرا، إلى الخضمّ الهادر للتاريخ والاجتماع والسياسة.. إلى المعمعان المصطخب للفلسفة والفنون التشكيلية والموسيقى والمسرح والميثولوجيا والمرويات الشعبية.. وقبل هذا وذاك من أحاديّة لغة الضّاد إلى فرنسيّة راقيّة وإسبانيّة مكينة.. من فاس إلى بغداد وباريس وهلمّ مدائن وحواضر في ّشتّى الأمصار والأصقاع.. كانت العين الشعرية النّبيهة تلتقط المشهديّات وتقنص اللاّمرئيات.. تستبصر التّمفصلات التاريخية الكاسحة وتستغور البلاغات اليومية المتشذّرة.. بينما المخيّلة تنضج، بله تفاقم، أسئلة الذات، الآخر، العالم.. شواغل الكينونة، المصير، الموت، وما بعد الموت، مجترحة سبل قصيدة مركّبة عن الآخر، عمادها جملة شعرية استغراقيّة لا تكاد القراءة تتبيّن مبتدأها من منتهاها، و حيث يواظف مجاز مجنّح وتتراصّ سجلاّت ترميزيّة وإيهاميّة تستدعي أكثر من مؤهّل تأويلي باعثة، أي هذه الجملة، على الإقرار بكون الكتابة الشعرية، في هذا المقام، لهي، وبأثر من استعصائها الشّائك، من معدن أيّما مراهنة إبداعية ومجازفة، حارقة لما تجتازه من أراض، مضايق وشساعات، لا يعنيها البتّة، هي المخفورة بأرصدتها المعرفية والجمالية الهائلة، كما قصيدة أبي تمام، فريدريش هولدرلين، ألكساندر بلوك، جان بّول فاليري، فيليبّ جاكّوتي، هنري ميشو، صلاح ستيتيّه، محمود البريكان..؛ ذلك السؤال العتيق، والشّقي في آن معا: لم لا تقول ما يفهم ؟ كذا، وانطلاقا من ديوان «و يكون إحراق أسمائه الآتية» وحيث تستعاد، رؤياويّا، السيرة الدراماتيكيّة لأبي حيّان التوحيدي، المثقف النيّر، العزوف، المحاذر، والمتطلّب، وتنهض قضايا الروح، الأخلاق، الحرية، الكتابة، الثقافة، والسلطة.. إلى ديوان «تحت الأنقاض.. فوق الأنقاض» و حيث تشاد شعريّة فادحة للموت، كمعنى، كمصير، وكانفتاح أونطولوجي باذخ، وتتصادى نبرات السّلالة العاتية..غلجامش، أليغيري دانتي، راينر ماريا ريلكه..؛ تلتئم قسمات مشروع شعري مائز واصله محمد السرغيني بكثير من الجهد والعنت، التّأني والحدب، المسؤولية والتّواضع، مستجلبا، هكذا، لاسمه مكانة وهيبة مستحقّتين في الشّعرية المغربية المعاصرة.. ولعلّ «جمعية أصدقاء المعتمد» وهي تخصّ صاحب هذا المشروع بتحيّة رمزية دالّة، خلال الدورة الواحدة و الثلاثين للمهرجان الوطني للشعر المغربي الحديث، فإنما هي تهيّئ إمكانية للنّقاد والشعراء الضيوف كيما يترجموا هذه التحيّة إلى شهادات ومقاربات تنكبّ على: الإبداعي والأكاديمي في سيرة الشاعر، الشخصي والإنساني، حدود الإبداعي و الفكري في قصيدته، المؤثّرات والمرجعيّات، المحلّي والعربي و الكوني في منجزه الشعري، النصّي والرؤياوي..؛ وذلك على سبيل المثال لا الحصر.. (*): نص الورقة التقديمية لندوة «التجربة الشعرية عند محمد السرغيني» التي ستنعقد غدا الجمعة ضمن فعاليات الدورة 31 من المهرجان الوطني للشعر المغربي الحديث الذي تنطلق أشغاله مساء يومه الخميس 14 أبريل بشفشاون، وهي الدورة التي تحمل اسم الشاعر محمد السرغيني رائد الحداثة الشعرية المغربية.