إذا كانت الهجرة انتقال من وطن المولد والنشأة إلى بلد الاستقبال والتطور، ومن فضاء يصبح فيه الواقع شبحا يطارد المرء إلى مجال يتراءى له منبعا للحياة والكرامة المفقودة في الوطن الأم... فإن عملية الانتقال هاته لاتخلو من علل، إذ سرعان ما يجد المهاجر نفسه بين مطرقة الاندماج وسندان الهوية والانتماء والانغراس في البيئة الجديدة ولو أن أتربتها غريبة عما ألفه وترعرع وفقا لقواعده، علاوة على ذلك المعاناة المستمرة داخل أوطان الاستقبال من مظاهر العنصرية وتبخيس القادم من بلد ثالثي كالمغرب، صورة المهاجر التكعيبية التي لا تخرج عن إطار الوافد المتطرف الهمجي المتهم بالإرهاب... "" إن المهاجر باعتباره الطرف الذي يقوم بعملية الهجرة إنسان كغيره من مغاربة الداخل ساخط على نظام وواقع، فثلاثة ملايين من المغاربة المنتشرين عبر أصقاع العالم لم يقوموا بترك الوطن عبثا. طبعا هؤلاء هاجروا من أجل تحسين ظروفهم المعيشية وتحقيق حلمهم بغد أفضل لأنفسهم ولعائلاتهم... وهذا ما يعني عجزا محليا على تنفيذ آمالهم وتحقيق طموحاتهم، حيث أن الهجرة هنا ذات طابع اقتصادي واجتماعي معيشي. السياسات العرجاء للمؤسسات القائمة تسببت في التهجير القسري لهؤلاء وحرمان الوطن من طاقاته ومن سواعده التي تشيد حضارات أخرى في حين يتموقع الوطن في ذيل ومؤخرة المؤشرات العالمية في مجال التنمية البشرية. وبما أن المهاجر قد أصبح امتدادا للوطن عبر دول العالم، فإنه قد تحول إلى سفير لبلده، ذلك ان التمثيلية الدبلوماسية الحقيقية لا تنحصر في مباني السفارات والقنصليات المغربية، فعلى العكس تماما، فكل مواطن بمثابة سفارة متحركة. وعلى هذا المستوى تظهر تلك المفارقة المتعلقة بالهوية والاندماج، فإذا كان مطلوبا من المهاجر أن يندمج مع تصورات دول الاستقبال وتجسيدات ذلك على أرض الواقع، كيف يمكن له أن يحافظ على هويته؟ وأي هوية بالذات؟ الرسمية منها التي كانت سببا في نكبته؟ أم الشعبية التي كانت دافعا للبحث عن الأفضل؟ الجواب واضح، الاندماج لايعني الانسلاخ عن الهوية، والتشبث بالهوية الشعبية رهان حضاري على عاتق مغاربة الخارج المطلوب منهم العمل إلى جانب مغاربة الداخل في رفع الحيف والظلم والإقصاء والتهميش عنهم... لا أود رسم صورة مثالية عن مغاربة الخارج في هذا المقام، فهم انعكاس لواقعنا المجتمعي، فيهم الصالح وفيهم الطالح، إلا أن الأكيد أن المرء يحس بلوعة وهو يرى المغربي يسائل الآخر عن الجدوى من نيل استقلال على المقاس. مغاربة فيهم من حاول الذهاب للفردوس المفقود عبر قارب فأصبح لقمة لأسماك القرش، وفيهم من نجا وأصبح عاملا لدى من كان بالأمس أجدادنا يطالبون بجلائه عن أرضنا، وفيهم من يحلم باللحاق بقافلة المغادرين لوطننا . لمن سنترك هذا الوطن؟ علّقوني على جدائل نخلة واشنقوني.. فلن أخون النخله! (الرحل محمود درويش)