بايتاس: ارتفاع الحد الأدنى للأجر إلى 17 درهما للساعة وكلفة الحوار الاجتماعي تبلغ 20 مليارا في 2025    "ما لم يُروَ في تغطية الصحفيين لزلزال الحوز".. قصصٌ توثيقية تهتم بالإنسان    إحباط عملية تهريب دولية للمخدرات بميناء طنجة المتوسط وحجز 148 كيلوغراماً من الشيرا    رابطة علماء المغرب: تعديلات مدونة الأسرة تخالف أحكام الشريعة الإسلامية    بايتاس: مشروع قانون الإضراب أخذ حيزه الكافي في النقاش العمومي    كربوبي خامس أفضل حكمة بالعالم    كمية مفرغات الصيد الساحلي والتقليدي تبلغ بميناء المضيق 1776 طنا    وهبي يقدم أمام مجلس الحكومة عرضا في موضوع تفعيل مقترحات مراجعة مدونة الأسرة    وكالة التقنين: إنتاج أزيد من 4000 طن من القنب الهندي خلال 2024.. ولا وجود لأي خرق لأنشطة الزراعة    بايتاس يوضح بشأن "المساهمة الإبرائية" ويُثمن إيجابية نقاش قانون الإضراب    نجاة مدير منظمة الصحة العالمية بعد قصف إسرائيلي لمطار صنعاء    توقيف القاضي العسكري السابق المسؤول عن إعدامات صيدنايا    بورصة الدار البيضاء .. تداولات الإغلاق على وقع الإرتفاع    خلفا لبلغازي.. الحكومة تُعين المهندس "طارق الطالبي" مديرا عاما للطيران المدني    احوال الطقس بالريف.. استمرار الاجواء الباردة وغياب الامطار    السرطان يوقف قصة كفاح "هشام"    الكلاع تهاجم سليمان الريسوني وتوفيق بوعشرين المدانين في قضايا اعتداءات جنسية خطيرة    قبل مواجهة الرجاء.. نهضة بركان يسترجع لاعبا مهما    "الجبهة المغربية": اعتقال مناهضي التطبيع تضييق على الحريات    في تقريرها السنوي: وكالة بيت مال القدس الشريف نفذت مشاريع بقيمة تفوق 4,2 مليون دولار خلال سنة 2024    جلالة الملك يحل بالإمارات العربية المتحدة    ستبقى النساء تلك الصخرة التي تعري زيف الخطاب    مدرب غلطة سراي: زياش يستعد للرحيل    العسولي: منع التعدد يقوي الأسرة .. وأسباب متعددة وراء العزوف عن الزواج    تحديد فترة الانتقالات الشتوية بالمغرب    نشرة انذارية.. تساقطات ثلجية على المرتفعات بعدد من مناطق المملكة    حصاد سنة 2024.. مبادرات ثقافية تعزز إشعاع المغرب على الخارطة العالمية    المغرب يفاوض الصين لاقتناء طائرات L-15 Falcon الهجومية والتدريبية    "زوجة الأسد تحتضر".. تقرير بريطاني يكشف تدهور حالتها الصحية    330 مليون درهم لتأهيل ثلاث جماعات بإقليم الدريوش    أبناك تفتح الأبواب في نهاية الأسبوع    المحافظة العقارية تحقق نتائج غير مسبوقة وتساهم ب 6 ملايير درهم في ميزانية الدولة    بيت الشعر ينعى محمد عنيبة الحمري    المنتخب المغربي يشارك في البطولة العربية للكراطي بالأردن    استخدام السلاح الوظيفي لردع شقيقين بأصيلة    إسرائيل تغتال 5 صحفيين فلسطينيين بالنصيرات    أسعار الذهب ترتفع وسط ضعف الدولار    كندا ستصبح ولايتنا ال51.. ترامب يوجه رسالة تهنئة غريبة بمناسبة عيد الميلاد    أسعار النفط ترتفع بدعم من تعهد الصين بتكثيف الإنفاق المالي العام المقبل    بلعمري يكشف ما يقع داخل الرجاء: "ما يمكنش تزرع الشوك في الأرض وتسنا العسل"    طنجة تتحضر للتظاهرات الكبرى تحت إشراف الوالي التازي: تصميم هندسي مبتكر لمدخل المدينة لتعزيز الإنسيابية والسلامة المرورية    الثورة السورية والحكم العطائية..    "أرني ابتسامتك".. قصة مصورة لمواجهة التنمر بالوسط المدرسي    المسرحي والروائي "أنس العاقل" يحاور "العلم" عن آخر أعماله    مباراة ألمانيا وإسبانيا في أمم أوروبا الأكثر مشاهدة في عام 2024    جمعيات التراث الأثري وفرق برلمانية يواصلون جهودهم لتعزيز الحماية القانونية لمواقع الفنون الصخرية والمعالم الأثرية بالمغرب    مصطفى غيات في ذمة الله تعالى    جامعيون يناقشون مضامين كتاب "الحرية النسائية في تاريخ المغرب الراهن"    هل نحن أمام كوفيد 19 جديد ؟ .. مرض غامض يقتل 143 شخصاً في أقل من شهر    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    تنظيم الدورة السابعة لمهرجان أولاد تايمة الدولي للفيلم    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المواهب: بين تحصيلين!
نشر في هسبريس يوم 31 - 05 - 2009

كثيرة هي تلك المرات التي تختل فيها "موازين" التخلف على درب التقدم الموهوم، وعديدة هي تلك الخطوات على درب التقدم نحو التخلف المؤكد؛ تلك هي سمة واقع المتخلفين التي أحاول -ومنذ مدة طويلة- تتبع آثارها على تربة دول الجنوب وفي فضاء دول الشمال. وكلما يغوص الإنسان في التفاصيل ويسبر أعماق الجزئيات إلا وتأتيه نوبة من "الغثيان العمراني" و"الاشمئزاز الحضاري" لدرجة يحاول معها المرء التنصل من إنسانيته حتى لا يدركه "الجنون الثقافي" في زمن عزّت فيه الثقافة الحقيقية وأصبح الفكر كائنا منقرضا مثله مثل كل الديناصورات. ""
في بلدنا الحبيب، الذي يحاول بعض المستغلين لثرواته والمستأثرين بخيراته أن يقضوا على حبنا المتبادل بيننا وبينه لننسحب ويخلو لهم صفو الوداد لمزيد من قطف الثمار، تتجدد المحاولات الكرّة بعد المرّة لصنع واقع نشاز غريب يجعل هذا البلد يعيش حالةً من انفصام الشخصية بشكل حاد، قد يصعب على أي تشخيص تحديد مكمن دائه ومصدر دوائه. ففي الوقت الذي يصرخ فيه واقع المغاربة المرير ملء الدنيا بسبب آلام لا تُحصر وكسور لم تُجبر، تجد بعض المتمغربين الذي يتقنون فن التمويه الإعلامي عبر الوسائل "الشرعية" والقنوات "الرسمية"، تجدهم يقدمون منتوجات لا تستقيم إلا في أذهان من يريدون رسم معالم مغايرة للمجتمع المغربي وزرع قيم بالية بديلة محل القيم التي تتجذر في أبنائه (ذكوره وإناثه طبعا) رغم كل الشوائب التي قد تعريها من حين لآخر.
وهكذا، تنبجس فجأة مفارقات عجيبة من معين القنوات الإعلامية المرئية، لتصور المغاربة في قوالب تبعث على الانبهار في صدور من لا يعون الواقع على حقيقته، في حين أن الذين يعنيهم الأمر والذين هم موضوع التصوير يجدون أنفسهم أمام مقاربات أشبه ما تكون بسيناريوهات "الخيال العلمي" حيث يغيب المنطق ويُتَجاوز العقل وتضمر الحقائق المُعاشة. لتجد في خضم المعمعة الإعلامية "شهيوات" من كل لون ونوع يسيل لها ريق أغلبية تكتوي بنار ارتفاع الأسعار، وبالخصوص أسعار المواد الأولية، ولا تجد لها سبيلا للعب دور الطباخ الذي يتحدث عن اللحم بالكيلوغرامات، وعن مكونات صعبة الابتلاع لفظيا، وعن مقبلات يغطي ثمن الواحدة منها مصاريف الوجبات الشهرية لعائلة من تسعة أفراد. كما تجد في هوامش تلك المعمعة استنساخ تجارب البرامج التي تعنى بالموديلات والأكسسوارات المنزلية التي لا يجرؤ سكان الأكواخ والكهوف وبيوت الطين والقصدير التي تعج بها البلاد حتى أن يحلموا بالحلم بها يوما ما. وفي طيات تلك المعمعة أيضا يتم الحديث عن تشجيع إنتاج ينتسب للوطن والوطنية منه براء؛ وهكذا كلما حل شهر تصفيد الشياطين تجد قنواتنا تتنافس على تقديم منتجاتها الرديئة الحبلى بالمرض الفكاهي حيث أورام تغييب الوعي وسرطان تحريف الاهتمام الشعبي عن القضايا الحقيقية التي تنتعش بروحانيات الصيام والقيام. وفي الوقت الذي تهفو فيه الأمم المتحضرة لتنوير العقل وتهذيبه وتشذيبه وصقله، تجد معمعاتنا تتبادل أدوار نفي العقل عبر تسليط الضوء على الأقدام التي تقعر كيان الإنسان مهما كانت ذهبيتها، أو إثارة البطون بنغمات المسابقات حيث الفوز لمن تهز أكثر وتزلزل القاعات بشكل أكبر.
وعلى هذا المنوال يمضي التخلف نحو تقدمه ليسجل في كل فترة حضوره "المتميز" عبر محطات مختلفة تجد لها الصدى الإعلامي الكافي لتكرس الغاية السامية (تقدم التخلف) عبر بوابة تغييب الوعي واختزال الفكر والثقافة واحتقار العقول. ولعل آخر محطة تستأهل الاهتمام بالتدقيق في تفاصيلها من خلال ما جادت به قريحة إعلامنا اللاوطني، هي تلك التي صاحبت مهرجان "موازين الرباط"؛ حيث كان ثمن "النهضة" قتلى وجرحى بالعشرات.
في الصورة المتحركة يظهر "فنانون" وكثير من "الفنانات" يتم استقبالهم بحفاوة تجمع بين أصالة التمر والحليب تحت أشعة الشمس وفي الهواء "الطلق"، ومعاصرة المرطبات والعصائر الباردة وكل ما تلذ الأعين وتشتهيه الأنفس في ظلٍّ بارد كريم، فيما يحتشد ثلة من الشباب والشابات المعجبين الذين تم اختيارهم سلفا لتأثيث المشهد وهم يصفقون ويرددون الأغاني الشهيرة ويحملون الهدايا (خارج قاعة الاستقبال طبعا)، وخلال كل هذه الجوقة التي تزركش أنغام الاستقبال بأهازيج كناوة، ينضم للمشهد حراس حريصون على أن لا يمس "الفنانة القديرة" أي "مكروه" محتمل، وكأنك تستقبل أصحاب الفخامة والمعالي والسمو.
استقبال من هذا العيار، وبهذا الحجم، وبتلك المواصفات لم يحلم به قط فنان مغربي يسهر على تقديم منتوج يرفع به راية البلاد التي مسحت عرق أكتاف وظهور من صعود منصة "النهضة" قبل أن يمسحوا كرامة فنانينا بالتراب. وما عزز واقع "الحكرة" للمغاربة قاطبة، هو ذاك البعد الذي أراده المخرجون لهذا الحدث العاصمي؛ حيث أضحى المهرجان محطة لتصفية الحسابات السياسية والثقافية الداخلية والخارجية، بالشكل الذي يصبح معها المواطن مجرد رقم يدرج في نشرات الأخبار ليضفي "الشرعية العددية" على هكذا تحركات موسمية. وما يؤكد المفارقات الغريبة العجيبة، هي تلك المحاولات التي سعت للتطبيع مع حمولات ثقافية هجينة ومستهجنة، زاد من هجانتها واستهجانها ما أقدمت عليه القناة الثانية في إحدى نشراتها حين فبكرت ما أسمته "المثير للانتباه" من اصطحاب الآباء للأبنائهم في حفل "فاكهة موازين" اللذيذة بتغنجها وكلامها الساقط. وما قصده المذيع الخجول من لفظ "فاكهة موازين" لم يكن سوى "نانسي عجرم"، ليعطي الانطباع السخيف بأن العائلات المغربية ليس لها مشكل في سماع القاذورات الحنجرية لنانسي أو مشاهدة نتانة الميلان الجسدي لعجرم، كل ذلك وهي مجتمعة على طبق صاخب يميع العلاقات الاجتماعية للأسرة كما ميعت "دوزيم" خبرها المكشوف حين سمحت لنفسها بأن تنسب الأبوة لبعض الحضور والبنوة للبعض الآخر؛ ألا قبح الله السفه والسفهاء!
دول، مثل دولتنا، تعاني فقر الحكامة في جميع القطاعات؛ وعقول، مثل عقول المسيرين عندنا، حيث الهشاشة التربوية والفقر المعرفي، لا يُنتظر منها إلا ما أقدمت عليه، في ظل تخدير عام لا يلقي بالا لاستغلال إمكانيات الدولة ومقدرات أبنائها، ولا ينتظر سوى لقمة عيش مهما كانت مستويات الكرامة متدنية في طياتها. في هذه الأوضاع، كيف نريد للإبداع أن يخرج للوجود؟ وأي مخاض يستحمل هذه الولادة؟ وأي نغمة يمكنها أن تحتضن صرخة المولود؟ أم أي دولة مستعدة لحمله وحمايته في بطنها شهورا عجاف؟ وأي استعداد ذاك الذي تبديه الدولة لرعايته بعد الولادة والعناية به حتى يقوى عوده ويشتد؟ تخلف مؤسساتنا اليوم يريد إبداعا سهل المنال، وكأنه "إبداع الأنابيب"؛ حيث النطفة قادمة من بنوك معلومة، والبويضة مستخرجة من أرحام مسمومة، والإخصاب يتم في أنابيب على المقاس، قبل أن تزرع البذرة الهجينة في رحم مدفوع الأجر؛ وهكذا يولد ما يطلق عليه "إبداع" بالمواصفات المرغوبة. إنه إبداع لقيط، لا يمت للوطنية بصلة، ولا يدين بالولاء لقيم الوطن وتاريخه وخصوصياته (لمن يعجبه حديث الخصوصيات). ومن يريد البحث عن تحصيل المبدعين الحقيقيين، فما عليه إلا التدقيق في الصناعة الإبداعية للدول التي تحترم عقول مواطنيها ولا تستهجن ذوقهم، وحيث مادة "الإبداع" جزء من المقررات التي يربى عليها النشء منذ نعومة أظافره.
ولنأخذ نموذجا بسيطا من دولة "عريقة في تحضرها" حتى يسهل الوصف ونقرب الصورة. في بريطانيا -مثلا- التي تعاني أزمات اجتماعية وثقافية متلاحقة تهدد الوجود العضوي للشعب البريطاني، تتم الاستعانة بكل الخبرات والطاقات والإمكانات للحفاظ على ريادة الدولة. وأحد الإبداعات الوطنية المدعوم رمزيا من طرف ملكة بريطانيا (إليزابيث الثانية) هو البحث عن المبدعين من خلال برنامج مشهور يسمى "بريطانيا تحصِّل المواهب" (Britains got talent). هذا البرنامج الذي يتكرر سنويا يهدف بالأساس إلى تحقيق أهداف اجتماعية وثقافية، لكن منافعه الاقتصادية غير خافية بما يحققه من عائدات الإشهار، ومقتنيات التذاكر، ورواج سياحي داخلي خاصة أنه يجوب كل المحافظات البريطانية، وهو بذلك يخلق أسواقا موسمية هامة تحرك الاقتصاد المحلي وتساهم في انتعاشه.
لكن ما يهمنا أكثر هو تلك الفرصة السنوية التي تتيحها الدولة لبروز المواهب في الميادين التي تستأثر بفرجة المجتمع؛ حيث لا حدود للأفكار الإبداعية أمام المشاركين الذي يحجون بمئات الآلاف لإبراز مواهبهم أمام لجنة تحكيم ذات مهنية عالية.
ومن خلال تتبع البرنامج، يمكن التطرق لمجموعة كبيرة من الملاحظات التي تجعل من تحصيل المواهب فرصة نادرة لاستكشاف الأهداف الخفية التي يراد تحقيقها عبر بوابة الإعلام في سياق الحفاظ على الهوية الثقافية للمجتمع البريطاني وضمان استمراريته العضوية.
الملاحظة -1- توفير اللوجستيك
أول ملاحظة تخص الإمكانيات التقنية واللوجستيكية اللامحدودة، والتي تتناسب مع إبداع كل فرد أو مجموعة ممن يتقدمون لاجتياز المباراة، وهم بعشرات الآلاف؛ وهو ما يعطي الانطباع بأن كل شيء يمكن توفيره في سبيل بلوغ الأهداف المنشودة، على عكس بلداننا حيث يجب على المبدعين التكيف مع الإمكانات الشحيحة، الشيء الذي يؤدي إلى كبح العطاء وأفول الإبداع من غير إشراقة جديدة.
الملاحظة -2- العفوية والتواضع
يغيب التصنع بشكل شبه تام أثناء الحلقات، وتبرز العفوية في أبهى حلتها على مستويات الإخراج، وتعامل المقدمين مع المبدعين، وتفاعل الجمهور، وتداول الحكام فيما بينهم، بشكل يبعث على الغبطة؛ لكن في نفس الوقت يحيلك على الحزن إذا ما قارنت واقع برامجنا مع هذا الواقع؛ حيث كثرة البروتوكلات والإملاءات والتوجيهات الجافة، الشيء الذي لا يحصل في هذا البرنامج حتى مع حضور الملكة (إلزابيث) التي تتخذ لها مكانا عاديا وسط الجماهير كما اتخذت لها يوما ما مقعدا عاديا في طائرة وسط الركاب.
وما يخطف إحساسك أكثر، حين ترى الأطفال والشباب يتحدثون بكل تلقائية وعفوية من دون رهبة أمام الكاميرا والجمهور، الشيء الذي لا يتكرر حتى مع الوزراء والزعماء على امتداد بلدان التخلف. أجواء العفوية والتواضع هاته، تجعل الإنسان ينظر للتفاعل المجتمعي من زاوية مغايرة تخالف تماما ما هو موجود في الشارع العام الغربي.
الملاحظة -3- عدم التمييز بين المواطنين
استشعار خطر العنصرية والتمييز على أساس العرق أو اللون أو الدين، أو حتى السن والانتماء المجالي، يذوب في خضم البرنامج؛ حيث يتم التأكيد على ضرورة تحقيق الاندماج بشكل عملي بالنسبة لذوي الأصول غير البريطانية من الأفارقة والآسيويين؛ وذلك بإتاحة الفرصة لبروز عناصر التنوع في المجتمع، وبالتالي ثراء تجربته المجتمعية التي تشكل قاعدة الإبداع. تلك إحدى الرسائل التي يعمل البرنامج على إشاعتها رغم الاختلالات الموجودة على أرض الواقع. فلا فرق بين طفلة في ربيعها الخامس أو شيخ في سن 73، ولا فرق بين أسود أو أحمر السحنة، ولا فرق بين ذوي الأصول البريطانية وغيرها، ولا فرق بين قروي أو قادم من المدينة، الكل سواسية، ويحضون بذات الاهتمام والتقدير على أساس المواطنة. وهو أمر بعيد الحدوث في ظل السياسات الإعلامية المتردية ببلدنا؛ حيث تشط روائح الإقصاء والأنانية و"التبرهيش" التي تغذيها غياب بوصلة هادفة مبنية على قيم المواطنة وتضع في الحسبان احترام ذوق المواطن واختياراته.
الملاحظة -3- تشجيع الترابط العائلي
في كثير من الأحيان يَقْدُم المبدعون مع عائلاتهم التي تُقدَّم على أنها السند الحقيقي والمنشأ الخصب للإبداع، وغالبا ما يعطى الانطباع أن "المشجع الرسمي" للمبدع هو الأم، بشكل يحث على تفعيل دور الأمومة في الأسرة ومن خلالها النهوض بالحميمية العائلية المفقودة في المجتمع البريطاني، والغربي بشكل عام. إضافة إلى ذلك، يحظى المبدعون الذين يقدمون عروضا مشتركة مع أبنائهم أو أحفادهم بعناية خاصة، تعزز الإحساس بضرورة الرقي بالترابط الأسري بين الأجيال، وتمتين أواصر القرابة بين اللاحقين والسابقين. وإذا ما تتبعت مسابقاتنا أو مسلسلاتنا، لن تجد إلا لغة التنافر العائلي، والحظ على الندية، وزرع بوادر التفرقة، وتسعير نار المطالبة بالحق، وتأليب البعض على الآخر بشكل يفقد الصغير احترام الكبير وينفي رحمة الكبير بالصغير.
الملاحظة -4- تشجيع العمل الجماعي وتعزيز الثقة بالنفس
لا يقتصر الإبداع على العطاء الفردي فحسب، وإنما تعطى الفرصة للمجموعات الراقصة والإنشادية والفكاهية لتجريب حظها علّها تحقق إعجاب المتفرجين والحكام؛ وغالبا ما تكون المجموعات مكونة من فئة الشباب، الشيء الذي يحظى بتشجيع عميم لا يوازيه في الوصف إلا ما ينطقه الحكام من كون التجربة "لامعة" أو "نجومية" أو "غير مسبوقة".. وغيرها من الأوصاف التي يشنف بها الحكام أسماع المبدعين في أجواء من التصفيق الحار منقطع النظير؛ وذات الأمر يحصل مع الفرادى، وفي غالبيتهم أطفال ومراهقون؛ حيث يتم تشجعيهم على المبادرة بالشكل الذي تتعزز معه ثقتهم بأنفسهم وإيمانهم بقدراتهم الذهنية والبدنية ولو لم يكن الفوز حليفهم، الشيء الذي يجعلهم يكررون التجربة ويخوضون غمار المنافسة من جديد؛ وهو ما كانت له ثمار جيدة على بعض المحظوظين (ليس بمفهوم الحظ عندنا طبعا)؛ حيث أصبحوا نجوم الشاشة، يحركون الجماهير في الشوارع، ويقدَّمون -إعلاميا- كقدوة لرجال ونساء الغد ممن لا تعجزهم الخسارة أو يسكنهم اليأس.
الملاحظة -5- تشجيع المحافظة على التراث والقيم
رغم السرعة التي تتطور بها الحياة الغربية، وما يخلفه ذلك من انقراض أصناف من الإنتاجات الموسيقية والفلكلورية؛ فإن البرنامج يبدو حريصا على إعطاء قيمة إضافية للمبدعين الذي يرجعون لإحياء التراث الفني للدولة والنهوض به من جديد؛ وهكذا يتحرك الجمهور والحكام والمقدمون -بكل عفوية- مع كل نغمة تذكرهم ببدايات النهضة (الحقيقة وليس المصطنعة)، ويهتزون على وقع الرقصات والإيقاعات العريقة بما تسمح به ثقافتهم وقيم المجتمع البريطاني المنفتحة.
لكن هذا "الانفتاح القيمي" للمجتمع لا يكون مدعاة للسماح بتمييع الذوق العام والتماهي مع الإفراط في "الانفتاح"؛ ذلك أن حالات من "الإبداع" يتم إيقافها على الخشبة حسب ما تسمح به قوانين البرنامج؛ لأنها تتجاوز حدود اللياقة والأدب، كأن يقدم أحدهم على خلع ملابسه، أو إصدار ما من شأنه أن يدفع الجمهور للهتاف "بارّا.. بارّا" (OUT! OUT!).
ورغم كل تلك الأجواء، فالاحترام لا يغيب البتة، إذ يقدم التبرير للمترشح بشكل لبق وفي قمة المخاطبة بالتي هي أحسن، وأحيانا في أجواء فكاهية تجعل القرار مقبولا والتفهم متبادلا.
الملاحظة -6- الاهتمام الإعلامي والجماهيري
يحظى البرنامج باهتمام جماهيري ومتابعة إعلامية واسعة في بريطانيا وأوروبا، ويعاد بثه في العديد من القنوات الأمريكية والأسترالية؛ الشيء الذي دفع بعض القائمين على الشأن الثقافي والإعلامي إلى تكرار التجربة والنهوض بمحاولة تحصيل المواهب في بلدانهم من دون الاقتصار على التفرج فقط، وهكذا تناسلت عبارات متشابهة "American’s got talent" و"Australian’s got talent". وحتى فرنسا المتشددة في ممانعتها تجاه الثقافة الأنجلوسكسونية؛ لم تجد بدا من إخضاع التجربة لخصوصياتها الثقافية ومحاولة تحصيل المواهب بما يخدم هويتها الحضارية ويحقق تواصل إشعاعها الثقافي العالمي، فكان البرنامج تحت اسم "مواهب لا تصدق" (Incroyable Talent)، ولو مع جودة أقل ومردودية خافتة دون المأمول.
أمام هذا الاهتمام الإعلامي والجماهيري؛ فإن أصحاب المواهب الفائزين في البرنامج يصبحون أبطالا قوميين يحظون بمزيد من تسليط الأضواء، ويتم تعميم سيرهم الذاتية ومسارهم التعليمي وواقعهم الأسري، وتراهم يوزعون التوقيعات على المعجبين، وتعطى لهم شواهد التقدير من المؤسسات التي ينتمون إليها.. وباختصار، تتحقق أحلام النجومية لديهم بشكل واقعي بعد المجهود الذي قاموا به. وهو واقع لا يمكن مقارنته بأي شكل من الأشكال -للأسف- مع واقع المتخلفين؛ حيث تهميش الكفاءات، وسرقة انتصارات الآخرين، والسطو على إبداعات وبراءات الغير، وقبل كل ذلك التحجير على الإبداع وإخضاع المقومات الحضارية والثقافية للشعوب بالإكراه لأجندة قيمية مستوردة تخلق مواطنا ك"قرد سعدان"، ممسوخ في إنسانيته من جهة، وفي بهيميته من جهة أخرى. وهو ما عززته إحدى المحاولات العربية لتكرار النموذج البريطاني؛ حيث كرست واقع التخلف بالتركيز على السلبيات لإضحاك الجمهور على حساب كرامة وإنسانية المرشحين، مستهدفة بذلك تحقيق فرجة "باسلة" لا ترقى لدرجة تحصيل المواهب ورعايتهم بشكل جاد.
إن الفرق كبير، وكبير جدا، بين تجربة تسعى لتحصيل المواهب ورعايتها ودعمها؛ حيث تكون الثمار مرفوقة بمشاعر صادقة من البهجة تصل حد سيلان الدموع، تبكي معها المشاهد على بعد آلاف الكيلومترات؛ وبين تجربة تسعى هي الأخرى لتحصيل المواهب مع فارق في معنى "التحصيل" الذي يستمد مصدره من "الحَصْلَة" هذه المرة؛ حيث تُوأد قنوات الإبداع على مستوى الإرادة والرغبة والقدرة، فينضاف إلى البكاء على واقع الحال دموع المعذبين مِن عائلات مَن سقطوا ضحايا الاستلاب الثقافي واختلال "موازين" التقدم و"النهضة"، وحتى من دون أن يذكر لهم اسم داخل الحدود فكيف يكون لهم شأن خارجها؟!
اللهم استرنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض. آمين.
للتواصل مع الكاتب:
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.