كلما رأيتُ في الأخبار منظرَ الجثثِ المغربيةِ المُلقاةِ بفداحةٍ على الشاطئ الاسباني أتساءل: لماذا لا نُعاملُ هذه الأجسادَ المُبلّلةَ بالملح والموتِ بما يليقُ بأجسادِ الشهداء؟ "" ليس بالضّرورة أنْ نحملَ الغرقى في جنازاتٍ شعبيةٍ ملفوفين بالعلم الوطني، ولا أن نُسمّيَ الشوارعَ بأسمائهم...ولكن ماذا لو مَنَحْنا لحدثِ موتهم هُناك قليلاً من الهَيْبَةِ هُنا وكثيراً من الاحترام. قتلى المهاجرين السريين هم عنوانُ مرحلةٍ جديدة، وشهداءُ عهدٍ جديد، ولكل عهدٍ شُهداؤُه. علّمنا الاستقلاليون أنَّ الشهداءَ هم أولئك الذين ماتوا في مواجهتهم للمستعمر من أجل الاستقلال، هم شبابٌ رفضوا حمايةً بدون استقلال ، وسعوا إلى التحرر من قهر الأعداءِ، هُمُ المقاومون الذين ناضلوا وقدموا أرواحهم فداءً للوطن...حتى عاد محمد الخامس. علّمونا فصدّقناهم، ولا اعتراض. وعَلّمَنا اليساريون أنّ الشهداءَ هم الذين قُتِلُوا في مواجهتهم للنظام من أجل تحرير الشعب، هم شبابٌ رفضوا استقلالا بدون حرية، وسعوا إلى التحرر من قهر الحاكمين، ناضلوا وقدموا أرواحهم فداءً !للشعب...حتى عاد أبراهام السرفاتي علَّمونا فآمَنَّا بهم، ولا اعتراض. فمن يُعلِّمُنا أن الشهداءَ في العهد الجديد هم أولئك المهاجرون السرِّيُّون الذين نجهل أسماءَهم ولا نتذكرُ ملامحَهم حيث تحوّلَ أغلبُهم إلى مجرّد أرقامٍ في مقابرَ مجهولة... هم أولئك الذين ماتوا في مواجهتهم للذل والفقر، وسعوا إلى تحرير أنفسهم من قهر الآخرين...هم الذين يقدمون حياتهم كل يوم فداءً للكرامة. إنّ شهداءَ الاستقلال هم شبابٌ شَكُّوا في الحماية، فانتفضوا من أجل الاستقلال. وإنَّ شهداءَ سنواتِ الرصاص شَكُّوا في الاستقلال، فانتفضوا من أجل الحرية. أفلا يَحِقُّ للجيل الجديد أنْ يَشكَّ في هذه الحريةِ وينتفضَ من أجل الكرامة. قد يكونُ المهاجرون السريون مجرَّد شباب حالمٍ طائشٍ أرعن مغامر، يحلمُ بالوهم إذْ يحلمُ بحياةٍ كريمة ...لكنْ أليسَ بهذا كان المنتفعونَ من الاستعمار يَصِفُون المُنتفضين من أجل كرامةِ وطنهم؟ أليس بمثل هذا كان المنتفعون من المخزن يصفون الحالمين المنتفضين من أجل حرية شعبهم؟ لقد تصور المتاجرون بدماء الشهداء أن عهدَ الشّهادة ولَّى بعد أن نالتِ البلادُ استقلالها مُستَخِفّين بنضالِ اليساريين ، وفي فترة لاحقة بعد أن تَشكّلت حكومةُ التناوب ساخرين من نضال الحقوقيين...واتفقوا جميعاً على أن العهدَ الجديد عهدُ بناءٍ ووفاق، وتناغمٍ بين الحاكمين والمحكومين. غير أنّ مأساةَ هذا الجيلِ الغاضب الذي قدّم في طليعته شهداءَ الهجرة السرية هو أنّ عدوه ليس له ملامح، يشعر بظلمه ولكن لا يراه، يشعر بقسوة السياط لكنه لا يرى يدَ الجلاد...عكس الجيلين السابقين اللذين أدركا بوضوح منذ البداية أن عدوّهما ذاك: مستعمِرٌ ثم مَخزن. ولذا فإن شهداء العهد الجديد الأموات والمفترضين مناضلون مسالمون، ما قتلوا أحدا ولا دمروا سكة حديد، ما فجروا مخزنا ولا فخخوا سيارة...ما هَرَّبوا بندقيةً ولا أطلقوا رصاصة...إنهم يواجهون عدوّهم بأجسادٍ عارية قربَ البوغاز، إنهم فدائيون بلغةٍ عصيّة ٍعلى الفهم...يقدمون حياتَهم قرباناً للكرامة...وليس أمامهما خيارٌ ثالث: نصرٌ عزيزٌ يُعيدهم بعد كمْ سنةٍ إلى بلادهم معزّزين عبر ميناء طنجة في مراسيم شبه رسمية، أو شهادةٌ تضعهم بين يدي إلهٍ عادلٍ عزيز ...مواصلين مسلسلَ الفداء من تحرير البلادِ إلى تحرير الشعبِ إلى تحرير المواطن. [email protected]