قبل سنوات سمعت على قناة الجزيرة مفكرا عربيا رزينا للأسف لا أذكر اسمه تحدث عن مرض خطير ينتقل إلى عقل الإنسان العربي المسلم جيلا بعد جيل.. ومن خلال التجارب والأحداث اتضح فعلا أنه مرض موجود وخطير في الوقت نفسه.. وهذا المرض هو أننا عاطفيون إلى أبعد حد، وننزع إما إلى التهويل الشديد أو التبسيط الفج. وعلى هذا الأساس، تغيب عندنا في كثير من القضايا التي تواجهنا ومنها قضايا حياتنا اليومية النظرة الموضوعية التي تعطي الحجم الحقيقي الطبيعي للقضية.. فإذا ضرب أحدنا الآخر، عد الآخر الاعتداء جريمة "إبادة" وتصرف على هذا الأساس وقطع الرحم واستدعى المدد وهجم وشرد لتنتهي مشكلة بسيطة إلى سجن لسنوات أو مستشفى أو عاهات مستديمة.. وإذا رفض أحدهم مد صديقه بسيجارة، استل الآخر سكينه وقتل صديقه ليقضي سنوات شبابه في الزنازين.. هذا بشأن "التهويل"، أما فيما يخص "التبسيط" فحدث ولا حرج، أحدهم يجد وظيفة فتراه يتراخى في أدائها ويتصور طرده مسألة لن تحدث أبدا وإذا ما حدثت يعبئ النقابة والزملاء.. وآخر يسارع إلى الزواج ظانا أنه ترف ولعب ولهو، دون أن يسأل ويبحث عن هذه المؤسسة وتبعاتها ومسؤولياتها اتجاه الطرف الآخر واتجاه الأبناء والعائلات والمجتمع.. وقس على ذلك من الأمثلة وهي للأسف كثيرة جدا.. وبسبب منهج الحياة المقلوب هذا تضيع سنوات عمر الكثيرين في متاهات تافهة، ولا يغتنم الإنسان حياته للإبداع والعطاء والاجتهاد. ومن رحمة الله بعباده، أنه يرسل مشاكل وأمراض من حين لآخر لعباده لعلهم يرجعون، ويفيق المرء من سباته ويحاول تصحيح هذا المنهج.. فيعلم الشخص الذي يريد قتل صديقه بسبب سيجارة أن السيجارة التي تساوي درهما واحدا، لا يمكن أن تقارن بثانية واحدة من عمر الإنسان.. ويعلم الذي يريد أن ينغمس في مستنقع المخدرات أن الحياة أطهر وأجمل من أن يتلفها في نيران تلهب متعاطيها حتى الموت.. ويعلم الراغب أو الراغبة في الزواج أن الارتباط ليس لعبة، وإنما هي مسؤولية يجب أن يتأكد من قدرته على تحملها، فيعد العدة لإسعاد زوجته وأطفاله ويواجه معهم تحديات الحياة بوعي ومسؤولية وتقدير حقيقي وسليم لتلك التحديات.. وكل هذه النظرة الموضوعية للحياة، توصل المرء إلى تصور حقيقي وسليم لما أسماه الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر ب"حقيقة الإنسان الكاملة"، وهي تجربة الموت وما بعد الموت.. فكلنا كما قال الشاعر العربي قديما : ولقد علمنا لو أن العلم ينفعنا ** أن سوف تلحق أخرانا بأولانا، ولقد عجبت وما بالموت من عجب ** ما بال أحيائنا يبكون موتانا.. فكلنا نعلم أننا سنموت، وإذا ما سألت الصغير والكبير سيخبرك بذلك.. لكن من منا ينظر إلى هذه التجربة التي تنتظرنا يوما ما نظرة موضوعية لا تهويل ولا تبسيط فيها؟ "" إن الموت والدمار الذي تنشره إسرائيل بأسلحة أمريكية، وبتواطؤ عربي رسمي وأوروبي ليس شيئا بسيطا.. قتل أكثر من 821 طفلا وامرأة وشيخ لحدود اليوم الخامس عشر من العدوان ليس شيئا عاديا يجب أن يمر بسهولة.. وليتصور أحدنا ليستطيع الفهم أن أباه أو أمه أو أخاه أو أخته أو أبناءه ماتوا اللحظة أمام عينه وخرج في جنازتهم ليدسهم في التراب.. الأمر جلل وكبير وخطير جدا، وما يعيشه أهل غزة لا يستطيعون بغير الإيمان بالله وحده تفهمه.. وكما أثرت في شخصيا كلمات بعض نساء غزة ورجالها لوسائل الإعلام وهم يقولون: "إسرائيل تستطيع أن تدمر كل شيء وتقتلنا بطائرات أمريكا وأسلحتها، لكن لن تستطيع أبدا قتل إيماننا وإرادتنا"... إن الصبر على المأساة لوحده نصر كبير، أما تجاوزه إلى الصمود والاستعداد للتضحية فهو أمر وبصراحة يصعب على الإنسان استيعابه وتصوره وتفهم أن بإمكان الطاقة البشرية المؤمنة أن تصل إلى هذا المقام الرفيع... وهذه الحقيقة تقودنا إلى نقطة اخرى، وهي أن الحرب على غزة، وقتل وجرح كل هؤلاء الشهداء لم يكن أبدا لأن صواريخ تطلق من هنا أو هناك.. ومن يدعون هذا ليراجعوا تاريخ وأحداث حوالي 100 عام من الصراع مع العدو.. حماس لم تكن موجودة كتنظيم مقاوم قبل 1987، فهل كانت إسرائيل توزع الورود على أهل غزة والضفة وباقي فلسطين المحتلة؟.. أيضا قبل مجزرة الحرم الإبراهيمي عام 1994 لم تكن العمليات الاستشهادية قد دخلت بعد استراتيجية المقاومة على يد المهندس المحبوب يحيى عياش وإخوانه، ومع ذلك ليراجع الناس المجازر التي وقعت قبلها.. وليراجعوا مجزرة كفر قاسم، ومجزرة دير ياسين، ومجازر حيفا ويافا وعكا وصفد والجليل والقدس وبيت لحم.. إلخ.. ومن يريد الاطلاع على المعلومات عليه فقط تخصيص خمسة دراهم تكفيه ساعة إبحار في النت وليبحث عن تفاصيل هذه المجازر... إن عدوان غزة كان حتميا سواء كانت صواريخ حماس قد انطلقت أم لا، وسواء استمرت التهدئة أم لا، لسبب بسيط أجمع عليه كل ذي رأي داخل بلاد المسلمين وخارجها، وهي أن المستهدف هو شيء اسمه المقاومة.. إسرائيل قبل عدوانها، وكما كتب أحد الصحافيين الأمريكيين مؤخرا، لم تأخذ الضوء الأخضر من أمريكا فقط، بل إن بوش الصغير "كسر جميع أضواء إشارة المرور، وسمح لإسرائيل أن ترتكب هذه المجازر التي يخجل منها الشيطان نفسه ولا يستطيع اقترافها. بل حتى أوباما قد اطلع من فريق أمني وديبلوماسي إسرائيلي على تفاصيل الهجمة أياما وأسابيع قبل انطلاقها كما أكد ذلك الصحافي والكاتب المصري المعروف محمد حسنين هيكل خلال برنامج مع قناة الجزيرة.. والهدف استئصال المقاومة وتهيئة المجال للتركيز على إيران ثم سوريا. وطبعا قبل ذلك لا بد من النظر إلى شمال إسرائيل.. ولنتفق منذ الآن على أن تل أبيب ستوجه حتما وبالضرورة مستقبلا هجمة نحو لبنان وستجد لذلك ألف ذريعة.. المثير حقا للاستغراب هو أننا سنسمع وقتها من طرف بني جلدتنا عن جهل أو عن سوء نية أن روح المقاومة لدى حزب الله هي السبب.. إن من يطلع على تاريخ المقاومة المغربية إبان الاحتلال الفرنسي العسكري المباشر سيتصادف مع مواقف البعض من "حزب فرنسا" الذين كانوا يصفون أعمال الذين نسميهم الآن "مقاومين وشهداء مغاربة" بالأعمال "المتهورة وغير المحسوبة"، لأن المحتل الفرنسي كان يقوم بحملة عقاب جماعي ضد المواطنين بعيد عملية هنا أو هناك.. وهذا السيناريو نفسه الذي يتكرر دائما لأنه قدر المقاومة في كل زمان ومكان أن تتعرض لاتهامات البعض، ثم تصبر وتصمد فتنتصر.. ولم يحدث أبدا في التاريخ بحسب علمي طبعا أن تم استئصال أي مقاومة وإنهاء وجودها.. هذا لم يحدث ولن يحدث، وهنا أتحدث عن مقاومة بشكلها المعروف والطبيعي والمؤسس.. والسبب بسيط وواضح، وهو أن المقاومة مرتبطة بالحق، والحق قامت عليه السماوات والأرض، ومن يريد استئصالها عليه أولا تغيير سنن الله في الكون، ويجعل الشمس تشرق من الغرب، والأرض لا تدور حول نفسها.. أما الاحتلال الإسرائيلي، كباقي دول الاحتلال التي مرت عبر التاريخ، فكل ما استطاعته بعد نصف شهر من العدوان، هو تدمير المنازل، وقتل الأطفال والنساء والشيوخ داخل منازلهم.. وهذه حرب "جبانة" كما سماها هوغو تشافيز الذي طرد سفير إسرائيل شر طردة.. فأين الشجاعة في قتل طفل أو امرأة عبر طائرة الإف 16 الرهيبة؟.. وكنا سننبهر حقا لو أن الجندي الإسرائيلي يستطيع القتال وجها لوجه ضد مقاومين مسلحين بأسلحة خفيفة جدا وإيمان صلب.. وهذا لا يحدث أبدا، وهذا الجندي يصدق فيه قول المتنبي رحمه الله وهو يصف الجندي الرومي في معركة خاضها سيف الدولة الحمداني ضد الروم: أتوك يجرون الحديد كأنما ** سروا بجياد ما لهن قوائم... أي أن الجندي من كثرة الدروع التي يحملها اتقاء لسيوف المسلمين يبدو وكأنه راكب على حصان ليس له أرجل.. حركة بطيئة وثقيلة.. وهكذا حال الجندي الإسرائيلي اليوم.. مسلح بكل أنواع الأسلحة ويتحرك حاملا حقيبة ظهر مليئة بالعتاد والماء والأدوات الطبية والذخيرة والقنابل والحاسوب العسكري والأوراق وووو.. غير أنه لا يحمل معه أهم شيء في الحرب وهو الإيمان بقضية المعركة والاستعداد للموت لأجلها.. والله تعالى، خالق اليهود يقول عنهم "قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين، ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين" (سورة الجمعة)... الاحتلال الذي يستأسد بالطائرات والمدافع بعيدة المدى على الأطفال الجوعى والمرضى لم يستطع أبدا "ضرب البنية التحتية لحركة حماس"، و"استئصال فصائل المقاومة"، أو حتى "وضع حد لإطلاق الصواريخ" وهي أهداف وضعتها لنفسها وصرحت بها للعالم.. وقد فشل في هذا فشلا ذريعا. بل إن ارتفاع عدد قتلى الجنود الصهاينة سينهي أو على الأقل سيؤثر سلبا المستقبل السياسي للذين قرروا شن العدوان. إن المتتبع لمسار تحرك العدو الإسرائيلي يعلم أن إسرائيل كانت دوما تتحرك من موقع القوة في كل حروبها، أما بعد هزيمة يوليوز 2006، وهزيمة غزة التي تقاس بفشل تل أبيب في تحقيق أهدافها، فإسرائيل تتحرك من موقع رد الفعل، وتريد عبر عدوانها رد الاعتبار لصورتها العسكرية التي ضربتها صواريخ المقاومة اللبنانية والفلسطينية في مقتل.. وهذا ما يسميه علماء السياسة ب"التهديد الاستراتيجي"، وكانت إسرائيل في مأمن منه نسبيا منذ حرب 48.. لكن من 2006 فصاعدا، الخريطة كلها إلى تغيير.. وكل الأمل يبقى في أن تكون غزة بداية سليمة وصريحة لكي نغير عقولنا نحن أيضا في اتجاه التخلص من عقدة الدونية ونفسية الهزيمة والنظر إلى الأمام بعزم ورغبة في الحياة.. تنويه: أشكر كل الزملاء الذين سبق وراسلوني على الميل على رسائلهم الرقيقة.. كما أستغل الفرصة لأعتذر للقراء الكرام على هذا التأخير في تجديد المقال.. والسبب هو إجراء عملية جراحية لابنتي وأسأل الجميع الدعاء الخالص لها ولجميع أبناء المسلمين بالشفاء.. وهي تجربة علمتني شخصيا أن ما يجري في غزة أكبر من أن يوصف.. [email protected] صحافي بشبكة إسلام أونلاين.نت