ولكم كان عبد الهادي خيرات "بتعروبيت" الجميلة التي حملها معه من الشاوية إلى بلاتو برنامج "حوار" يوم الثلاثاء الفارط موفقا حين قال إن المسألة متروكة لاختيار الناس, متسائلا "كاين اللي عوج وكيتكفا آش غادي ندير ليه؟ الخوار هادا", متندرا ممن ينسجون الحكايات والأساطير عن طريقة تقبيل يد الملك وعن درجة الرضا والسخط مما حاكه على امتداد سنوات بعض المقربين من المربع, وجعلوه رأس مالهم التجاري الذي يمارسون به بعض المهام الغريبة. والحق أن نقاش البوسة ديال اليد هو نقاش تافه للغاية مع الاحترام التام لمن يدفعون به, خصوصا وأن المغاربة اليوم مستعدون لتقبيل أعضاء أخرى لمن يستطيع تقبل ظمئهم للديمقراطية, ومستعدون لمبايعة كل القوى السياسية التي تفهم تطلعات هذا الشعب في حرية وكرامة وعدالة اجتماعية بشكل حقيقي. وليعذرنا من يعتبرون هذا النقاش اليوم هو قمة النقاش المغربي, لكننا نعتبره تافها إلى درجة الشك في أنه طريقة من بين طرق أخرى لتمييع النقاش الأكبر الدائر حول الدستور, ووسيلة يلجأ إليها بعض من سحب البساط من تحت أقدامهم لكي يجدوا شيئا آخر يقولونه بعد أن أصبحت مطالب الشارع أكبر منهم بكثير. المشكلة الحقيقية في المغرب اليوم ليست في أن يقبل الشعب يد ملكه أو أن لا يقبلها, خصوصا وأن هذا الملك منذ أن اعتلى العرش, حسم الموضوع, ورأينا العديدين يسلمون عليه سلاما عاديا دون تقبيل لا اليد ولا الكتف دون أن يقع لهم أي مكروه, مثلما رأينا آخرين وقد اختاروا التعبير عن حبهم له بهذه الطريقة, وهي مسألة تظل فعلا شخصية ومرتبطة بكل واحد على حدة. المشكل الأكبر يوجد في العقليات المستعبدة التي لازالت معنا في المغرب, وهذه العقليات قد تمنع قانونيا كل السلوكيات التي تدل على العبودية, لكنها تظل متجذرة في أذهانها, وأسوء علامات هذا الاستعباد استعابد الطبقة السياسية المثقفة الواعية التي تعطي مظهريا الإحساس أنها تنتمي لعصر الناس هذا لكنها جوهريا تحن للعهود البالية وتمني نفسها بدوام الحال بل ربما عودته إلى ماكان عليه قبل عقود. ولكم أدهش حين أقرأ لبعض المنظرين الكبار للثورة اليوم في الجرائد, والذين أعرف أنهم في مجالسهم الخاصة, أو حين يكونون مع أمراء مغاربة أو عرب يحرصون على احترام "التقاليد المرعية" بالنقطة والفاصلة, لكنهم حين الصعود إلى الميكروفونات يمثلون دور غيفارات الزمن الحديث, خصوصا وأن الزمن أصبح زمن حديث مجاني, فلاأحد اليوم سيقول لك لماذا قلت هذه الجملة؟ أو لماذا كتبت هذا السطر؟ وقد حكى لي صديق عاد من رحلة خليجية أخيرة أن أحدهم (وهو بالمناسبة واحد من كبار الهضارة في مجال الثورات الكلامية اليوم) قد أزعج الحاضرين في اللقاء الخليجي إياه بكثرة ترديده لعبارات "طويل العمر" لأحد الأمراء, ما استدعى مساءلته من طرف مجالسيه "مالك على هاد النفاق كامل؟" فكان جوابه "راه عزيز عليهم اللي يقول ليهم بحال هاكاك". هؤلاء أخشاهم أكثر مما أخشى مواطنا مغربيا عاديا اعتقد لفرط ما رأى وسمع في التلفزيون ولفرط ماتم ترسيخه في ذهنه من طقوس عبادة الشخصية لعقود كثيرة أنه إذا لم يقبل يد الملك في لقائه به سيتعرض لمكروه أو ماشابه. هؤلاء هم الخطر الذي يهددنا بالفعل, خصوصا وأن "التخليطة" التي وقعت اليوم تنذر بكوارث جسيمة, فلم نعد نعرف من مع حركة 20 فبراير ومن ضدها, ومن يريد استمرار العهد الذي صنع فيه ثروته الجديدة, ومن يريد بقاء العهد مع بعض الرتوشات, ومن يريد التخلص من كل شيء لأنه يعتبر أنه "مارابح والو". وقد انضافت "للتخليطة" عناصر أخرى كانت تعادي كل التحركات الحالمة بالحرية في الوطن, لكنها فهمت الآن أن اتجاه الريح يسير نحو هذه التحركات فقررت الركوب عليها, والمساهمة بدورها في الخلط المعيب الذي تعاني منه الحركة اليوم, وكان أسوء تجسيد لهذا الأمر هي بعض اللافتات التي كتبت في مكان ما وخرجت في مظاهرات 20 مارس, والتي تعمد كاتبوها الخلط بين كل شيء من أجل إفراغ الحركة من أي معنى لها, خصوصا بعد أن سمعنا أسماء بعينها واللافتات ومن كتبوها تطالبها بالرحيل, في الوقت الذي غابت أسماء أخرى تماما عن هذا المطلب "الشعبي" الكبير. إن أسوء ما قد يقع لنا في المغرب اليوم بالإضافة إلى الخلط المعيب, والسقوط في النقاشات التافهة وعديمة الأهمية, هو أن نخلف موعدنا الأكبر مع تغيير بلدنا تغييره الإيجابي الذي يستحقه في الاتجاه الذي يستحقه, لا في الاتجاه الذي يدفع نحوه بعض "المساخيط" وما أكثرهم للأسف الشديد في هذا الوطن الحزين.