يا لها من حصلة وقعت فيها المخرجة سونيا التراب بسبب فيلمها الحصلة. والكل يريد رأسها. الكل يهاجمها. وحتى بعض النقاد. وحتى أهل الثقافة. وحتى أهل الفن. للأسف. وحتى من يفترض فيهم أن لا يقعوا في هذا الخلط. وأن يميزوا. بين الواقع. الواقع الذي يعتقدون أنه الواقع. وبين فيلم وثائقي. والكل يتهمها بالإساءة إلى الحي المحمدي. وإلى تاريخه. وأمجاده. وإلى مقاومته. وإلى ما أنجب من مجموعات غنائية. ومن كتاب. ومن رجال مسرح... إلى آخره. إلى آخره. وحتى الذين لا تربطهم أي علاقة بالحي المحمدي. ولم يعيشوا فيه. ولم يسبق لهم أن زاروه. تملكتهم الغيرة عليه. وشعروا بأنهم معنيون. ودافعوا عن حيهم. وأرادوا حيا آخر غير ذلك الذي شاهدوه في القناة الثانية. حي مثاليا. حيا معجزة. حيا يستحق أن يفتخروا بع، وأرادوا شبابا ومراهقين آخرين غير أولئك الذين ظهروا في الفيلم. كما لو أنهم يحملون المخرجة مسؤولية التحولات التي وقعت. والكل يقول لها هذا ليس الحي المحمدي. هذا تزييف للحقيقة. والكل يعتبر الحي له وحده. ولا يجب الاقتراب منه. ولا يجب تصويره. ولا يجب خدش الصورة التي رسموها له. ولا يجب إفساد ما يحتفظون به في ذاكرتهم عنه. لكن من قال لهم إن الفيلم التسجيلي أو الوثائقي يعكس الواقع. من أخبرهم بذلك. فليس صحيحا بالمطلق أن الفيلم الوثائقي يعكس الواقع كما هو. وأن من خصائصه أن يكون طبق الأصل. وليس صحيحا أنه يحكي الحقيقة كما هي. بل هو يحكي الحقيقة بعين مخرجته في حالتنا. ويصور الواقع الذي رأته سونيا التراب. واقعها هي عن الحي المحمدي. ونظرتها هي له. وليس كما نراه نحن. وليس كما يراه من ينتقدها. ومن يرغب في نظرة أخرى. ومن يرغب في حي محمدي رائع. وفي حي محمدي آخر. وكل شيء فيه جميل. فما عليه إلا أن يصوره لنا. وينجز فيلما ضد هذا الفيلم. فيلما-بيان حقيقة. فيلما رد اعتبار. فيلما تكذيبيا. فيلما بنظرة مختلفة ومغايرة وإيجابية. فيلما ورديا. فيلما أبطاله كلهم إيجابيون. فيلما دعائيا. ثم ما هو الواقع. من يدعي أنه يعرفه. من هذا المدعي الذي يقول إنه قادر على الإحاطة به من كل جوانبه. وتصويره. وتقديمه للجمهور. واختزاله في فيلم وثائقي. من يحتكر الحديث باسمه. ومهما ادعينا أننا نعرف الواقع. فإن الواقع غير واقعي. نعم. الواقع ليس واقعا. الواقع هو نظرة كل واحد منا له. لذلك هناك أكثر من واقع. خاصة إذا كان الأمر يتعلق بمجال ليس علما. ولا إحصاء. بل عين مخرجة. لها فكرتها. ولها تصورها. ولها ميولاتها الفنية. والإخراجية. ولها الأعمال التي أثرت عليها. ولها حساسيتها. وثقافتها. حتى أن البعض سمح لنفسه بأن يحاكم المخرجة. وأن يقتحم رأسها. ويتدخل في رؤيتها لعملها. وفي زاوية معالجتها. وفي فكرتها. وفي اختيارها لأغنية المشاهب. وفي توظيفها لعنوانها. حتى أن البعض استكثر عليها أن تكون مخرجة. وأن تتجرأ. كأننا أمام بوليس سينما وثائقية. كأننا نطلب منها أن تفرجنا على ما نرغب في التفرج فيه. وليس ما تقترحه هي علينا. وأن تدغدغنا. وتتجنب قدر الإمكان فضحنا. وأن لا ترينا ما نرفض رؤيته. كأننا أمام شرطة تحقق مع المخرجة لأنها "زيفت" واقع الحي المحمدي. ولم تنقله لنا كما هو. مكتفية بما تريد نقله لنا. و يا لفظاعة عبارة "كما هو" هذه. وكم من الجرائم ارتكبت بسببها. وكم من استبداد لجأ إليها. والتهمة هي "تشويه الواقع". كما لو أن أفلام المخرج الأمريكي مايكل مور الوثائقية موضوعية. وتحكي الواقع كما هو. بل هي نظرته لأمريكا. وللليبرالية. وللرأسمالية. ويرى مور إيطاليا مثلا أفضل من أمريكا. ويرى العمال سعداء في أوربا. ويرى الحياة في كوبا رائعة. والمواطن سعيدا. ولا يعاني من ثقافة الاستهلاك. ولا يعاني من أي استغلال. ويراه في الجنة. لكنها نظرته. بعين يسارية. ومنحازة. بعين نظرتها لها حكم مسبق. بعين خاصة. بعين لا يعجبها النموذج الأمريكي. ومن حق مايكل مور أن ينظر تلك النظرة إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية. ومن حقه أن يصور أمريكا جحيما. لكن ليس هذا هو الواقع. بل جزء منه فحسب. بل عين مور وهي ترى الواقع. واقع خاص. يصور نفسه باعتباره الواقع والحقيقة. لكن ليس هو. أو ليس هو مائة في المائة. وهناك من انتقد فيلم الحصلة. و قال إنه كان عليه أن يكون إيجابيا. كما لو أننا في سينما موجهة. كما لو أننا أمام من يحن إلى واقعية اشتراكية جديدة. كما لو أننا في الاتحاد السوفياتي. أو في كوريا الشمالية. كما لو أننا أمام نقد يرفض من المخرجة ومن صاحبة الفكرة إظهار المساوىء. والسليات. مع الاقتصار فقط على ما هو ناجح. كما لو أننا مع توجيه المخرجة. وفرض حي محمدي رسمي عليها. حي لا يتغير. وحي لا يتراجع. وحي لا يعاني شبابه. كما يعاني معظم الشباب المغربي. ولا يتعاطون القرقوبي. ولا يتحششون. وهناك من كان عنيفا. وهناك من شتم المخرجة. وهناك من دعا إلى محاكمتها. وهناك من طالب برد الاعتبار إلى الحي المحمدي. وهناك من حرض الشباب الذين ظهروا في الفيلم كي يطالبوا بالتعويض. وهناك من تحدث عن المنتج. فيالها من حصلة. وتؤكد وجود سلفيين في الفن. وفي النقد. وفي الأدب. وفي الحي المحمدي. والكل يبحث عن الأصل. وعن حي محمدي متخيل. بينما الأصل هو الآخر غير موجود. والكل يبحث عن حي محمدي نقي. ونظيف. وتعرفون من كان يدافع عن النقاء والنظافة. وتعرفون ماذا ارتكبوا من أجل أن يكون عالمهم نقيا. وقد أكون مبالغا. لكن أليس خطيرا هذا التدخل في عمل مخرجة. وفي رؤيتها. وفي فكرتها عن الفيلم. وفي اختبارها. وفي ذوقها. وفي مشاعرها. والأخطر منه أن يأتي ذلك من نقاد سينما. ومن فنانين. والأخطر أن نسمع من يتهمها بالإساءة إلى الحي المحمدي. وبإقصاء الوجوه والأسماء المشرقة فيه. وبتغييب عباقرة الحي والناجحين. وبتسويد صورته. معتبرين كل هذه التهم نقدا فنيا. ورأيا في شريط. كأنه كان لزاما عليها أن تبيض صورة الحي المحمدي. وأن لا تظهر إلا الجانب الإيجابي من الحي. ثم أين نمل الحي المحمدي أين نحله. أين عصافيره. أين سطيلة. أين الصيصان التي بدرهم. أين تلك المصبوغة بالأحمر. أين الخضراء. أين الوداد. أين الطاس. أين الكاريان. ولماذا أقصيت كل هذا يا سونيا التراب. أين الدجاج. أين البط. أين التاريخ. أين البطولات. أين السلاح. أين المقاومة. أين مجموعة السهام. أين مسناوة. أين الشابو. أين القيصارية. أين الأرانب التي كانت تباع في الحي المحمدي أين الحمام المحمدي. أين سوق الخردوات. أين محلات الموبيليا القديمة. التي قضيت فيها طفولتي. أين جبل العلك. أين النقانق. أين اخليفة. أين فن الحلقة. أين كيرا. أين فن النكتة. أين دخان عربات الشواء. أين أحمد نجيم. أين أسطورة الحي المحمدي الحية. أينه. أينه يا سونيا التراب. ولماذا أقصيته. ولماذا غيبته. وما تبريرك. اعترفي. أين أنا أبناء الحي المحمدي الجماعية. أين الحنين. أين الواقع. أين الوهم. أين ذلك الحي المحمدي الذي يوجد في خيالنا. أين تصورنا عن الحي. أين فكرتنا عنه ألم تريها يا سونيا التراب. أم أنك تعمدت تغييبها. ثم أين الحي المحمدي. الحقيقي. الواقعي. الجميل. الشعبي. المثقف. ولن نسكت. ولن نتراجع. حتى تردي لنا ذلك الحي الذي في بالنا. الحي المتخيل. الحي غير الموجود هو الآخر. مثل الواقع غير الموجود. ومثل الحقيقة التي ليست واحدة. وغير الموجودة هي الأخرى. ومثل الأصل غير الموجود. ولن نتوقف عن مهاجمتك حتى تعوضينا. وحتى تصوري جزءا ثانيا يعيد الاعتبار إلى الحي المشرق وإلى الناجحين فيه وإلى المتفائلين وإلى كل الذين لا يعيشون في غمامة. ليكذبوا أولئك الذين يعيشون فيها.