استطاعت مدرجات ملاعب كرة القدم، أن تلفت اليها الانتباه من جديد، بعد أن تحولت الى منصات لتوجيه رسائل مباشرة وأخرى مشفرة، تتجاوز أبعادها أسوار الملاعب، وتتجاوز مجال الكرة والرياضة. ومن المؤكد، أن السياقين السياسي والاجتماعي، فرضا نفسيهما، ودفعا بتحويل الأنظار صوب المدرجات، كما دفعا بجمهور كرة القدم وخاصة الشباب، الى استغلال المباريات للتعبير عن آرائهم وعن احساسهم تجاه ما يعيشونه في حياتهم. ووجب تسجيل أن شعارات وأغاني جماهير كرة القدم بالمغرب، عرفت تحولا في المضمون، مباشرة بعد صدور قرار يقضي بحل روابط المشجعين (الالتراس) ومنع أنشطتها سنة 2016، هذا التحول شمل مضمون الشعارات، وزيادة جرعة الاحتجاج وإدماج البُعد السياسي والاجتماعي، سواء من خلال الكلمات، أو من خلال اللوحات التعبيرية (التيفو)، وبخلفيات فكرية وسياسية، كشفت مستوى عال من الوعي، ومن التفاعل مع مجالات متنوعة، منها الأدب والسينما والمسرح، وبإسقاطات ذكية واختيارات قاصدة. ولذلك لا يمكن فصل البُعد الاحتجاجي في شعارات وأغاني “الالتراس”، عن التحولات الاجتماعية في المغرب، التي فرضت أن تصبح ملاعب الكرة مسرحا للتعبير، وفضاء مشترك للتنسيق، ومجالا للهروب من مساحات الضبط والرقابة، أو على الأقل هكذا يتصورها مشجعو الفرق المغربية، بالنظر إلى توالي الاعتقالات والمحاكمات خلال السنوات الماضية على خلفية الاحتجاج على الاوضاع الاجتماعية، وعلى خلفية التعبير عن الرأي. وارتباطا بالتحولات نفسها، يمكن كذلك تسجيل، أن ظاهرة الأغاني ذات البعد الاحتجاحي لجماهير كرة القدم، وسرعة انتشارها، والتفاعل الايجابي للشباب معها، لها علاقة بالدينامية السياسية في المغرب، التي عرفت تراجع فعالية ومصداقية مؤسسات الوساطة، سواء كانت مؤسسات منتخبة أو أحزاب سياسية أو نقابات أو جمعيات مهنية وغيرها، فقدمت روابط المشجعين نفسها، كبديل في ظل الفراغ الذي خلفه تراجع مؤسسات الوساطة التقليدية عن أداء أدوارها، لأسباب ذاتية تتعلق بمسؤوليها، ولأسباب أخرى تتعلق بهواجس التحكم والضبط التي ما تزال تسيطر على بعض الأطراف الفاعلة في السلطة، أو المؤثرة فيها. وهناك أبعاد أخرى من الضروري الانتباه اليها، تتعلق بنجاح “الالتراس” وجمهور كرة القدم، إما في نقل شعور عام بالتهميش والمظلومية، إلى شعارات منظمة، تتخذ من مباريات كرة القدم منصة تعبير ، أو الانخراط في صناعة شعور عام تجاه الوضع السياسي والاجتماعي بالبلاد، وهذا ما يفسر الاقبال المتزايد للشباب على متابعة مباريات كرة القدم، وتقاسم ما تنتجه روابط المشجعين، وترويجه على نطاق واسع، خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، التي لا يمكن اهمال ما أتاحته هي الأخرى من فرص منفلتة عن المراقبة، لتنظيم وانتشار الدينامية الاحتجاحية الخاصة بروابط مشجعي كرة القدم. وربما ليس من المجازفة في شيء، القول بأن تطور شعارات “الالتراس” والتفاف عدد كبير من الشباب من مختلف التوجهات السياسية حولها، نسف أطروحة توظيف كرة القدم في محاولات إبعاد الجماهير عن السياسة، وعن التفاعل مع مستجداتها، بل يمكن أن تصبح هذه الرياضة، مساحة اضافية من مساحات الصراع مع السلطوية. إنه لا يبدو مجديا، الإمعان في الضغط على المجتمع، مع الاستمرار في تخريب هيآت الوساطة ذات المصداقية، وفي تفريخ هيآت ممسوخة تُسند لها مهمة الوساطة وهي غير قادرة عليها، لأن قانون التاريخ يقول بأن المجتمعات تصنع لنفسها مسارات، تشقها في حلكة الظلم والظلام، وتنتصر دائما مهما كانت الكلفة، ولذلك على العاقلين إذا لم يستطيعوا تلبية المطالب والحاجيات المتزايدة، أن يوجدوا فقط فسحات تعبير تخلق الأمل، وتُقنع بجدوى العيش المشترك تحت سقف واحد، لأن التعبير عن الاراء وعن المطالب دون ترشيد، ينتهي بما لا تُحمد عقباه.