الأصدقاء حائرون،تائهون بين الرغبة في الانتماء لهذا التحول،على ما هو عليه من اعتلال،و النفور من الجو العام السياسي و الاجتماعي،الذي يجعل منه،أي التحول،مهزلة من جهة ،ودرجة أخرى من انحدار الاهتمام بالشأن العام من جهة أخرى... الحيرة ،منبعها الضباب الكثيف الذي يخيم على المشهد السياسي في الوطن...ضباب منبعه الاستغلال الساذج لمقولة تميز الواقع المغربي..استغلال مزدوج .بين جهة ما تسيطر على بعض دواليب الدولة و الكثير من صناع الرأي العام،الإعلامية و الفكرية و الشخصية،و جهات يختلط فيها حراك الشارع،بالنزع الأخير لنفحة النضالية لدى جل أحزاب اليسار،بالسطو على بعض رموز الحداثة من طرف قوى الظلام و النكوص،و بتدني مستوى الاهتمام بالشأن العام و تدبيره الديمقراطي،لفائدة ثقافة الثورة و الصراخ..
هذا الصراع الأفقي المنتج للضباب،يتساكن مع صراع عمودي،يتمثل في الاختراقات التي تمارسها بعض القوى،المرتبطة بهياكل المخزن،سواء المؤسساتية أو فقط الولائية،في النسيج الجمعوي و الحزبي،مما خلق حالة من ألا استقلالية المطلقة لجميع الفاعلين السياسيين و المدنيين...
نتج عن كل هذا ،ارتباكا في تسطير خارطة طريق بنفس واحد و ببرنامج محدد لدمقرطة الدولة و المجتمع معا،ففي البداية،حين هبت نسائم الربيع العربي،وخرج شباب العشرين من فبراير للشارع للمناداة بإسقاط الفساد و الاستبداد،تراجع الكثير من رموز ذات الفساد للوراء،واعتكفوا بجحورهم ينتظرون مآل هذا الحراك من جهة،و يشتغلون من أجل تطويقه و العودة ،لما لا من خلاله،للتحكم في مجريات اللعبة السياسية...بموازاة مع ذلك ،عملت الدولة،في شخص رئيسها الأول،بالإعلان عن إصلاحات دستورية عميقة،والإسراع في إخراج مؤسسات وطنية حقوقية ( المجلس الوطني لحقوق الإنسان و مؤسسة الوسيط)،مع ما يوازي ذلك من إجراءات اجتماعية تمثلت في تلبية مطالب النقابات و تشغيل المعطلين و إشارات اتجاه ملفات الاعتقال السياسي و ما إلى ذلك من إجراءات...
بعد التحول الذي عرفه ما يسمى الربيع العربي من جهة،و اشتغال بعض الجهات التي نفذت لقلب الدولة،خاصة مع منتصف التسعينات و خلال العشرية الأخيرة،على تطويع الحراك المجتمعي المغربي،و الخلاصات التي توصلت إليها كون هذا الحراك لا يشكل خطرا بالمعنى السياسي الذي عرفته بلدان أخرى،تم إعادة تشغيل آليات النكوص والتراجع،بما يعيد تموقع الهاربين للجحور في واجهة الفعل السياسي ،و تدشين مرحلة جديدة من التقهقر الذي عرفه المغرب منذ انتخابات 2007 إلى يومنا هذا...
كانت من مظاهر هذا التراجع الشكل الذي تمت صياغة الدستور به،و انتفاء النقاش العمومي من وسائل الإعلام المملوكة للدولة،بعدما فتح هذا النقاش لمدة قصيرة لم تتجاوز الشهر في وجه كل الفاعلين السياسيين و المدنيين،ثم طريقة الاستفتاء على الدستور،و تعليق الاستجابة لبعض المطالب الاجتماعية،ثم أخيرا المسلسل الانتخابي الذي تم تدشينه بإعادة تحيين القوانين الانتخابية و عملية التقطيع الترابي ثم أخيرا اللوائح الانتخابية و تحديد الأجندة الخاصة بهذا المسلسل...
دون الحديث عن مسلسل التضييق على الحريات و الاستخفاف بالحق في الحياة اتجاه فاعلين في الحراك السياسي و تعليق مبادرة الانفراج السياسي اتجاه بعض معتقلي الرأي و غيرها...
جاء المسلسل الانتخابي حاملا لكل هذا النكوص،فكيف لا يحتار الأصدقاء و الرفاق...؟ لم يستطع شباب العشرين من فبراير الحفاظ على استقلاليتهم اتجاه بعض المكونات الداعمة من جهة و اتجاه بعض الجهات التي تدعي قربها من الملك،أو هي قريبة منه بالفعل..و لم تستطع الأحزاب التقدمية التاريخية من الإمساك بالفرصة التاريخية،لتحويلها لمحطة نقاش عمومي،تستعيد به قوتها الضاربة من مناضلين مخلصين و مثقفين و مفكرين ،ابتعدوا عنها لتورطها في ذات النكوص،دون الحديث عن فئات عريضة من هؤلاء المناضلين الذين أصبحوا يسبحون بالتوجه "التقدمي و الحداثي" للدولة،رغم كل الانفلاتات و التجاوزات،معتبرين الإشارة لذلك،من صنف العقليات الجامدة و المتخلفة عن فهم هذا التوجه..
بداية المسلسل الانتخابي الذي دشن بتحالف الثمانية الهجين،ثم حرب التزكيات،و الصراعات المتخلفة حول اللوائح الوطنية للنساء و الشباب،ثم تصدر نفس الوجوه لمختلف اللوائح المحلية،وبداية الحملة الانتخابية بروائح عطنة للمال و غياب نقاش عمومي حقيقي حول دور المؤسسة التشريعية ،وانخراط الجميع في حملة تضليل و كذب على المواطن الناخب،بتقديم الوعود حول إشكاليات لها علاقة بتدبير الشأن المحلي لا التشريع للسياسات العمومية...كل هذا جعل من الانتخابات وجبة باردة لا يُستساغ ابتلاعها..
كل هذا يفسر حيرة المواطن و يدفعه لحجب صوته...لعل في صمته إنذارا آخر ضد من يمسك بلعبة العبث الحارقة لتلابيب هذا الوطن...للتاريخ أحكامه و أوجاعه...فإمبراطورية القيصر ،لم يهدمها سوى كاهن وضيع ....اسمه راسبوتين....