الدكتور مصطفى بن شريف -محام بهيئة وجدة وأستاذ زائر بجامعة محمد الأول — تقديم: مع اشتداد شوكة الحراك الشعبي بالريف الأوسط ، و امتداده وتمدده، ليشمل مناطق واسعة من الريف الكبير ومناطق أخرى من المغرب ،احتد الجدل حول عدد من المطالب وأخذ هذا الجدل بعدا إشكاليا و من بين المطالب التي تم رفعها ضمن أخرى من طرف شباب و نشطاء الحراك، و أخذتحيزا كبيرا من النقاش العمومي والمؤسساتي ،المطالبة بإلغاء ظهير العسكرة، أي الظهير رقم: 381-58-1،القاضي "بان إقليمالحسيمة منطقة عسكرية"، وشرع العمل به، ابتداء من تاريخ 24 نونبر 1958. انه و أمام الجدل الذي أثير بشأن استمرار العمل بالظهير المذكور من عدمه، انقسمت الآراءالى اتجاهين، اتجاه يقول بأن الظهير لازال نافذا،وحيا يرزق، و تزكيه مظاهر العسكرة التي استمرت بإقليمالحسيمة حتى بعد سنة 1962، و تم بعث الروح فيه من جديد مع الحراك الشعبي. و اتجاه آخر يقول بان الظهير تم إلغاؤه، و حجته في ذلك، الاستشهاد بظهير رقم 351-59-1 المتعلق بالتقسيم الإداري للمملكة، المنشور بالجريدة الرسمية عدد: 2458 بتاريخ: 04/12/1959 الصفحة3419. أي أن الإلغاء المحتج به في هذا الباب يندرج ضمن ما يعرف بالإلغاء الضمني و ليس الإلغاء الصريح للقانون، ما دام أن ظهير التقسيم الإداري للمملكة لسنة 1959،كما هو ثابت من فصله السادس (6) لم يتضمن الاشارة الى الغاء ظهير العسكرة،وأن الإلغاء انصب على المقتضيات التشريعية و التنظيمية ذات الصلة بالتقسيم الاداري للمملكة، في حين أن ظهير العسكرة هو نص خاص، لم يتقرر إلغاؤه سواء تعلقالأمر بصفة صريحة أو بصفة ضمنية- لأن ن أساليب إلغاءالقوانين تكون إما صريحة أو ضمنية- و ذلك بالنظر إلى كون ظهير العسكرة لسنة 1958،محله و مجاله يختلف عن محل و مجال ظهير التقسيم الإداري للمملكة لسنة 1959، عملا بمبدأ أن إلغاء التشريع لا يكون إلا بتشريع لاحق مماثل له أو أقوى و أعلى منه، أي أن حق الغاء التشريع يعود للسلطة التي سنته أو سلطة أعلى منها، فالتشريع العادي يلغى بتشريع عادي أو بتشريع أساسي أو عضوي أعلى منه درجة. كما أن القول بتحقق حالة الغاء قانون جديد لقانون قديم، مشروط وبصفة وجوبية وإجبارية بان يكون القانون الجديد والقديم ينظم نفس الموضوع، أي ان النص القانوني الجديد ينظم نفس الموضوع الدي كان ينظمه النص القانوني القديم أو السابق، وهو الشرط المعدوم في ظهير1959 ، المتعلق بالتقسيم الاداري للمملكة، في حين إن موضوع ظهير العسكرة هو فرض حالة استثنائية غير مألوفة في الأحوال العادية على إقليم ،ولا علاقة لها بالتنظيم الترابي للمملكة،وتبعا لذلك تكون واقعةإلغاء ظهير العسكرة غير متحققة، لأننا أمام قانونين خاصين،وليس أمام نص خاص وآخر عام، كما أن موضوعهما مختلف، وهو الأمر الدي سنتولى التفصيل فيه وفق المنهجية التالية. أولا : طرق إلغاء القانون: الإلغاء الصريح و الإلغاء الضمني من المقرر قانونا ،أنه يبدأ العمل بتطبيق و نفاذ قاعدة قانونية بعد المصادقة عليها واحترامها الإجراءات التشريعية الشكلية والموضوعية و نشرها في الجريدة الرسمية. كما أن انتهاء العمل بها، يتم بعد إلغائها بشكل صريح أو ضمني.فالإلغاءالصريح للقانون هو من ولاية المشرع، أو الحكومة حسب الحالات،في حين أن الإلغاء الضمني هو من صلاحيات القضاء، دون الإفصاح عن ذلك الإلغاء صراحة فيالحكم، بل يعمل القضاء بمبدأ أن القانون الخاص يقيد العام في حال التعارض أو أن اللاحق ينسخ السابق، لأن القاضي لا يحل محل المشرع، فهو يهمل النص العام ويعمل بالنص الخاص. وأشكال الغاء القانون وردت صراحة في الفصل 474من قانون الالتزامات و العقود بنصه إنه " لا تلغى القوانين إلا بقوانين لاحقة،و ذلك اذا نصت هذه القوانين اللاحقة صراحة على الالغاء، أو كان القانون الجديد متعارضا مع قانون سابق أو منظما لكل الموضوع الذي ينظمه". و تأسيسا على ذلك، فإلغاء القانون قد يكون صريحا كما قد يكون ضمنيا، وهو نفس الاتجاه الذي نحاه المشرع المصري على سبيل المثال ،بنص المادة الثانية من القانون المدني. 1- في مفهوم الالغاء الصريح للقانون : الالغاء الصريح للقانون يتحقق لما تصدر قاعدة قانونية جديدة تقضي صراحة بإلغاء قاعدة قانونية قديمة)راجع محمد حسن قاسم، المدخل لدراسة القانون، منشورات الحلبي الحقوقية، الجزء الأول، سنة 2006 ، ص.339 (. ومن المتعارف عليه في الإجراءات التشريعية، أن القانون الجديد ،عادة ما يتولى في فصله الأخير، بيان وجرد النصوص القانونية القديمة الملغاة، وهو المبدأ الدي طبقه دستور 2011 ، حينما نص صراحة في الفصل 180 منه على الغاء دستور 1996 . والالغاء الصريح للقواعد القانونية قد يكون جزئيا Abrogation partielle كما قد يكون كليا Abrogation globale.Voir) Mohammed JALAL ESSAID, Introduction à l'étude du droit, 5eme Edition, Imprimerie NAJAH AL JADIDA, 2013 – 2014, (p.252 . 2- في مفهوم الالغاء الضمني للقانون : و يكون الإلغاء الضمني للقانون، لما تتعارض قاعدة قانونية قديمة مع قاعدة قانونية جديدة، ما يعني تحقق حالة التعارض بين القاعدتين القانونيتين، مما يستوجب العمل بالقاعدة الجديدة، التي ألغت ضمنيا القاعدة القديمة. لكن ذلك مشروط بأن يكون موضوع القانون الجديد هو نفسه الذي سبق و أن نظمه القانون القديم، وأن تكون النصوص المتعارضة من طبيعة واحدة. .كما أن قيام التعارض بين نص عام ونص خاص فهو لا يرتب إلغاء أحدهما للآخر، بل يترتب عن ذلك تقييد النص العام بواسطة النص الخاص، سواء كان النص الخاص هو النص الجديد أو النص القديم. ثانيا – قصور في بنية الآراء القائلة بإلغاء ظهير العسكرة: إن أنصار النظرية القائلة بكون ظهير العسكرة رقم 381 -58-1 لسنة 1958، قد تم إلغاؤه بالظهير رقم 351-59-1 لسنة 1959 المتعلق بالتقسيم الإداري للمملكة،و ذلك بالاستناد إلى فصله السادس، أمر غير قويم، خاصة وأننا أمام قانونين يختلفان في المحل أو الموضوع الذي ينظمانه. لكن و كما سبق القول، إن إلغاء القانون يتم بطريقتين، إما الالغاء الصريح للقانون و هو المقتضى الذي لم يرد في ظهير التقسيم الإداري للمملكة لسنة 1959، أو يكون عن طريق الالغاء الضمني للقانون، و هو الأمر الذي يتعذر العمل به بالنظر الى الاختلاف البين بالنسبة للموضوع الذي ينظمه كل قانون، و في نفس الإطار قضت محكمة النقض المصرية بأن" المقرر في قضاء هذه المحكمة أن إلغاء النصالتشريعي، يتضمن قاعدة عامة لا يتم العمل بها ،إلا بتشريع لاحق ينص صراحة على هذا الإلغاء ،أو يشتمل على نص يتعارض مع التشريع القديم ،أو ينظم من جديد الموضوع الذي سبق أن قرر قواعده ذلك التشريع، و كان المقصود بالتعارض في هذا الخصوص على ما جرى به قضاء هذه المحكمة يكون النصان واردين على محل واحد يستحيل إعمالهما فيه معا " (الطعن رقم 9869 لسنة 61 جلسة: 24/05/1997 والطعن رقم 0419 لسنة 54 مكتب فني 41 صفحة رقم 759 بتاريخ 26 / 11 / 1990 ). كما أن الفقه و القضاء يجمعان على عدم جواز إلغاء نص تشريعي إلا بتشريع لاحق ينص صراحة على هذا الإلغاء ،أو يشتمل على نص يتعارض مع نص التشريع القديم، أو ينظم من جديد ،الموضوع الذي سبق أن قرر قواعده ذلك التشريع، و أن مجال تطبيق ظهير ،1959 يختلف عن مجال تطبيق ظهير العسكرة، و بناء عليه لا محل للقول بإلغاء ظهير العسكرة بالقانون المتعلق بالتقسيم الإداري للمملكة، فهذا الأخير نطاقه و موضوعه يختلف عن نطاق وموضوع ظهير العسكرة. وتأسيسا عليه، لا محل للاحتجاج بظهير التقسيم الاداري للمملكة لسنة 1959 ،للقول بانه يرتب إلغاء ظهير العسكرة بشكل ضمني، لأن هدا الإلغاء لا يكون ضمنيا ولا يمكن تصوره ،إلا إذا توارد النصان في القانون الجديد وفي القانون القديم على محل واحد يستحيل معه اعمالهما فيه.) راجع قرار محكمة النقض المصرية، الطعن رقم 005 لسنة 38 مكتب فني 23 صفحة رقم 564 بتاريخ 29/ 03/ 1972(. ثالثا – في ثبوت استمرارالعمل بظهير العسكرة لسنة 1958 بعد صدور ظهير التقسيم الإداري للمملكة لسنة 1959: إن التشريع لا يلغيه إلا تشريع من نفس الدرجة أو تشريع أعلى، و قد يكون ضمنيا كما قد يكون صريحا (راجع الدكتور محمد الشافعي، المدخل للعلوم القانونية الطبعة الأولى، المطبعة و الوراقة الوطنية، 2015،ص،99، و راجع أيضا محمد المقريني، المدخل لدراسة القانون الوضعي، الطبعة الثانية، دار ابي رقراق للطباعة و النشر، الرباط، 2013، ص: 130). و الظهير عمل تشريعي، وفقا للمعيار الشكلي و المعيار المادي، لأن له صفة القانون، ( راجع 129 ,1956G.T.M ، 1956/07/03 du27 Cass) مما دفع بالأستاذ بول ديكروPAUL DECROUX إلى القول بأن " المغرب بلد الظهائر". و لما كان المغرب بلد الظهائر، فهل حقا ، قد تم إلغاء ظهير العسكرة لسنة 1958 بظهير التقسيم الإداري للمملكة لسنة 1959 ،أم استمر تطبيقه في الزمان والمكان ؟ إن إلغاء القانون السابق بالقانون اللاحق، يستوجب بالضرورة أن يكون القانونين معا من نوع وصفة واحدة و موضوع واحد. و لما كان ظهير العسكرة لسنة 1958، قد نص في فصله الأول بانه " يعتبر اقليمالحسيمة منطقة عسكرية"، فإنه يفهم من ذلك، أن الظهير هو قانون من نوع خاص، لا علاقة له بالتنظيم أو التقسيم الإداري للمملكة المنصوص عليه في ظهير 1959، المحتج به من طرف البعض في تبنيهم لنظرية الإلغاء المفترى عليه، علما أن الجهة التي تملك حق أو سلطة الغاء القانون هي نفسه الجهة التي اصدرته أي تلك المختصة بتشريعه أو سلطة أعلى منهامرتبة. انه باستقراء و استنطاق تاريخ الوقائع السياسية للمغرب، يؤخذ منها صراحة، أنه خلافا لما يزعمه بعض الوزراء و الوجهاء و المحللين، فان ظهير العسكرة استمر العمل به بالحسيمة، حتى بعد صدور ظهير 1959 المحتج به، بدليل أن مظاهر و أحكام العسكرة ظلت نافذة و إلى حدود 11 شتنبر 1962، لما زار الراحل الحسن الثاني الحسيمة بصفة رسمية، و ابتداء من تاريخه (11/09/1962)، شرع في التخفيف من العسكرة بشكل جزئي، دون تحقق ما يفيد الغاء الظهير من طرف الدولة صراحة أو ضمنا، علما أن الإلغاء في هذه الحالة يجب ان يكون صريحا لا ضمنيا. ان الاجتهاد القضائي في فرنسا و غيره من الانظمة القضائية المقارنة، يميز القوانين العامة عن القوانين الخاصة، فاعتماد مبدأ أن القانون الخاص ينسخ القانون القديم بالنسبة للحالةالتي يتعارض معها، فالقانون القديم يستمر في تطبيقه مع استثناء المسألة التي تم تغييرها بموجب القانون الخاص الجديد. كما أن اصدار قانون عام لا يرتب بالضرورة إلغاء قانون خاص، بل يجب فحص ارادة ومقاصد المشرع لتحديد ما اذا كان يتوخى من ذلك إلغاء أحد النصوص الخاصة المتعارضة. و من المعلوم ان الغاء قانون معين يستوجب فيه احترام بعض الشروط.من جهة، يجب أن يكون صريحا (Expresse) من طرف القانون الجديد. و الالغاء الضمني هومن ولاية القضاء. ومن جهة اخرى، إلغاء قانون يجب ان يتم على الأقل بواسطة نص من نفس القوة التشريعية. و حيث أنه و لما كان ظهير التقسيم الإداري للمملكة لسنة 1959، لم ينص صراحة في احكامه على الغاء ظهير العسكرة لسنة 1958، الأمر الذي يعني عدم تحقق الالغاء الصريح لهذا الأخير. لأن القول بإلغائه صراحة يتعين وجوبا شمول النص على قائمة القوانين التي طالها الالغاء بمقتضى القانون الجديد. وبناء عليه تتحقق صور الالغاء الصريح (Abrogation Expresse)، مثلا دستور 29 يوليوز 2011، نص صراحة في فصله 180 على الغاء دستور 07 أكتوبر 1996. لكن و خلافا لذلك، فان ظهير التقسيم الاداري( لسنة 1959) لم يرد من بين فصول ما يفيد لا صراحة و لا ضمنيا بإلغاء ظهير العسكرة، مادام ان نطاق و مجال الظهيرين مختلفين و لا يتوحدان في تطبيقاتهما، الأول يتعلق بالتقسيم (التنظيم) الاداري للمملكة، و الثاني يتعلق بحالة فريدة تتمثل في فرض حالة الاستثناء في ظلفراغ دستوري، و تم استمرارالعمل به حتى بعد العمل بدستور 11 دجنبر 1962. علما ان ظهير العسكرة لم يشمل جميع الأقاليم و العمالات المنصوص عليها في ظهير التقسيم الترابي للمملكة، بل تم حصره على اقليمالحسيمة، مما تنتفي معه شروط القول بإلغائه، و بناء عليه فان السيد وزير الداخلية ليس بجهة الاختصاص للقول بإلغاء الظهير من عدمه. إن المشرع هو الجهة المختصة بإلغاء قانون معين، إما كليا أو جزئيا (Cons.Const 27 Juill 1982 N° 82-142-DC &6)، و هو ما يعرف بالإلغاء الصريح للقانون (Abrogation Expresse)، و لقد أوضح مجلس الدولة الفرنسي (Conseil d'Etat)أن الإلغاء قد يكون إما صريحا (Expresse) أو ضمنيا (Tacite)، كما هو ثابت من قرراه المؤرخ في 25 يونيو 1954. (CE.25 Juin 1954, Synd.nat.meunerie à Seigle :Rec, CE , 379)، كما أكد بأن المصادقة على قانون يمكن أن يرتب إلغاء المرسوم الذي قد يتعارض مع القانون الجديد (CE. 4 NOV.1998 , GERNIGON : Rec. CE.T.725)، و يجدر التذكير بأن الحكومة لا يحق لها الغاء مقتضيات ذات طبيعة تشريعية، أي تلك التي تدخل ضمن مجال القانون و ليس مجال التنظيم، بل هي من وظائف و سلطة البرلمان.