صوّت اليونانيون، الأحد الماضي، بأغلبية كبيرة على رفض شروط خطة الإنقاذ التي وضعها الدائنون، متحدين سياسة الإملاءات المالية التي أرادوا أن يفرضوها عليهم. وهو ما اعتبر انتصاراً مزدوجاً، لأنه انتصار للشعب اليوناني الذي خرج ليقرر مصيره بنفسه، وأن لا يظل في وضعية المتسول ينتظر الإعانات، ومن بعدها الإملاءات. وهو أيضا انتصار للديمقراطية المباشرة، ولعودة السيادة إلى الشعب في البلد الذي ولدت فيه كلمة الديمقراطية. وهو، في درجة ثالثة، انتصار لليسار الأوروبي الجديد ممثلاً في حزب سيريزا في اليونان، وحزب بوديموس في إسبانيا، ونظرائهما في فرنسا وإيطاليا ممن يتطلعون إلى بناء نموذج بديل للرأسمالية المتوحشة. ويبقى المنتصر الكبير من هذا الاستفتاء رئيس الوزراء اليوناني ألكسيس تسيبراس، وحزبه اليساري سيريزا الذي غامر بمستقبله السياسي، عندما وضع مصيره بيد الشعب، لمواجهة اللوبي المالي العالمي في أوروبا وفي واشنطن. لكنه انتصار يحمل معه تحديات كبرى على الحزب اليساري الذي تسلم تفويضا قويا من الشعب، أن يعرف كيف يواجهها بذكاء، حتى يعبر ببلاده من نفق الأزمة الذي دخلته منذ سنوات. حالة اليونان اليوم ليست الأولى من نوعها التي تقرر فيها دولة ذات سيادة أن ترفض إملاءات المؤسسات المالية الدولية، لكنها بالتأكيد المرة الأولى التي يسند فيها مثل هذا القرار السيادي إلى الشعب، ليقرر مصيره بنفسه. قبل اليونان، كانت الأرجنتين قد اتخذت قراراً مماثلا. حدث ذلك قبل عشر سنوات، ويعود الفضل في فك الأرجنتين من حبل مشنقة المؤسسات المالية الدولية الذي كان يلتف حولها إلى شجاعة وزير ماليتها عام 2002، ألبيرتو لا فانيا، وبعد نظره. وبمناسبة الاستفتاء اليوناني، أجرت صحيفة ليبراسيون الفرنسية حواراً مع هذا الوزير الأرجنتيني الذي واجه صندوق النقد الدولي، عندما كانت بلاده تواجه أخطر أزمة اقتصادية حادة قبل عشر سنوات. يتذكر في الحوار أن أول قراراته عندما تولى منصبه أن لا يمد يده ل "مساعدة" صندوق النقد الدولي والأسواق المالية العالمية. ويقول إن بلاده كانت تعيش أوضاعا اقتصادية واجتماعية وسياسية أسوأ من التي تعرفها اليونان اليوم، لكنه عندما ذهب إلى مقابلة مسؤولي صندوق النقد الدولي الذين عرضوا عليه آنذاك 17 مليار دولار "مساعدات" فيما كانت بلاده مدينة ب 54 مليار دولار، كان قراره رفض تلك "المساعدة"، وإبلاغهم قرار بلاده الاعتماد على نفسها للخروج من أزمتها، ومعنى ذلك أن حكومة بلاده ستتوقف عن تقديم الدعم المالي للبنوك، كما كان يشترط عليها صندوق النقد الدولي، وهي الشروط نفسها التي يشترطها اليوم الدائنون على اليونان. ويضيف المسؤول الأرجنتيني بما أنه قرر الخروج من اللعبة فلم تعد لصندوق النقد الدولي أية سلطة عليه، وعلى بلاده، لتحديد سياساتهم المالية. وبالنسبة للوزير الأرجنتيني السابق، ألبيرتو لا فانيا، ترسم هذه المؤسسة النقدية الدولية دائما الحلول نفسها المتمثل في المطالبة بإعادة هيكلة الاقتصاد، بإعادة النظر في الأجور والمعاشات والمساعدات العمومية والمشاريع العمومية الكبرى، لتكريس المال المدخر لدفع ديون المقرضين والبنوك. فالمؤسسات المالية العالمية المانحة تفضل إنقاذ البنوك على حساب الناس، على حد قوله، وهو السيناريو نفسه المفروض اليوم على اليونان. والنتيجة لمثل هذه السياسة الشجاعة أن الأرجنتين نجحت في الخروج من أزمتها، وأن تستعيد سيادتها المالية والاقتصادية، بل وحتى السياسية والدبلوماسية، وقد تابعنا جميعاً تدخلات رئيسة الأرجنتين، كريستينا فرنانديز دي كيرشنر، التي انتقدت فيها داخل مجلس الأمن، وعلى الهواء مباشرة، سياسة أميركا حيال الإرهاب وقضايا الشرق الأوسط، ما لم تكن لتجرؤ عليه، لو لم تكن لبلادها السيادة الكاملة على كل قراراتها. خلاصة القول من الإحالة على التجربة الأرجنتينة هي الخلاصة نفسها التي ختم بها وزير المالية الأرجنتيني حديثه مع الصحيفة الفرنسية، عندما قال إنه عندما نصل إلى حالة اليأس علينا أن نفكر في تغيير المعادلة. وما حصل اليوم في اليونان أن الساسة اليونانيين قرروا تغيير المعادلة، وبهذا التغيير الجوهري، يضع "سيريزا" وزعيمه نفسيهما أمام تحدي امبراطورية المال العالمية التي تدار من واشنطن. لذلك، كتبت جريدة لوموند الفرنسية محذرة من الخطر الذي باتت تواجهه حكومة أثينا ورئيس الحكومة شخصياً تسيبراس، ودعت القوى الديمقراطية في فرنسا للوقوف ضد كل أشكال المناورات التي قد تستعمل لإطاحة حكومة اليونان الديمقراطية. فالتصويت اليوناني لا يحمل فقط عقاباً للحكومات الأوروبية، وإنما ينطوي على هزيمة للعراب الأميركي الذي لم يكن يرى في أوروبا سوى صمام أمان بينه وبين الاتحاد السوفييتي في عز الحرب الباردة، وهي النظرة نفسها التي ما زالت حاضرة اليوم، عند كبار المسؤولين الأميركيين الذين مازال أغلبهم يرى في روسيا، في عهد فلاديمير بوتين، خطرا محدقا بعد أن ابتلع الدب الروسي جزءاً من أوكرانيا. ومن هنا، هذا "الحرص" الأميركي على بقاء أثينا داخل الفضاء الأوروبي، لأن واشنطن التي تقود حلف شمال الأطلسي لا ترى في اليونان سوى امتدادا لذراعها العسكرية لمواجهة الخطر الروسي. ثمة من شبّه التصويت اليوناني بأنه زلزال يهز أسس أوروبا الموحدة، وهو بالفعل ناقوس خطر، يؤذن بقرب إفلاس نموذج الاتحاد الأوروبي، إن لم يتدارك الأوروبيون الأمر، فهو يأتي ليضاعف من متاعب الأوروبيين الذين يعانون من انعكاسات الأزمة الأوكرانية التي تدق طبول الحرب الأهلية في قلب أوروبا، ويتخوفون من التصويت البريطاني المرتقب نهاية عام 2017 حول استمرار بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، أو الانسحاب منه.