حط بوم كبير بني الريش على سلك كهربائي قرب نافدة غرفة النوم في منزلنا الصيفي ،كان البوم كبيرا وشامخا أدار بظهره نافدتي وقبع يتأمل البيت المقابل لدارنا ،قلت في قرارة نفسي لابأس فقد أدار ظهره لي حتى إن صدقت أقاويل متداولة عن البوم أو موكة في الثقافة الشعبية كندير شؤم،لست المعنية بهدا النبأ السيء الذي قد يحمله لي. والحقيقة أن زيارة هدا البوم في حلكة ليل صيفي قائظ أيقظت بداخلي ذكريات صيف ماض في شاطىء واد لاوبشمال المغرب ، كنا نصطاف هناك في جو عائلي واضطررنا أن ننتقل إلى إيجار بيت آخر لننعم بالهدوء والسكينة ،هربا من بيتنا الأول الذي كان يطل على الشارع الرئيسي للمدينة الجبلية الصاخبة كل صيف. وهناك فعلا وجدنا أنفسنا في بيت هادىء ومرتب على بساطته ،لم تكن الإنارة معممة على الحي، كنا في جو أقرب إلى البداوة وهناك استغربنا حجم طيور الليل التي كانت تنتشر على أشجار التين . بدا المكان موحشا موغلا في السكون .كنت تلك الأيام أفكر باستمرار بعمي رحمه الله ، كان مريضا أنداك يصارع الداء الخبيث ووجودي أمام حشد من البوم هكذا تسبب لي في قشعريرة فزع وعبر بداخلي سؤال متوتر :هل جاءت طيور الليل تخبرنا بأن عمي سيموت قريبا؟ من غريب الصدف أن مساء اليوم الموالي سمعنا خبر وفاة بائع متجول شاب أراد ان يرتاح من جولته بغطسة في ماء البحر فابتلعه لأنه لا يعرف السباحة،وكان الغرق حدثا تلك الليلة شهدنا كل تفاصيل البحث واخراج الجثة التي مددت أمام الملأ وهي مغطاة بايزار أبيض ،كان المنظر مؤثرا للغاية وكنت أرى في مصير داك الغريق مصير آخر لعمي المريض الذي قلب خبر مرضه المباغث كل موازين العائلة .وكأنني حينها كنت أعد نفسي لسماع خبر صادم لاريب . في قريتي بالريف تآلفت مند طفولتي مع عدد من الكائنات الليلية مثل الخفاش والبوم والضفدعة ،كانت البومة تطير باستمرار أمامنا وكذلك الخفافيش التي تسكن قرب بيتنا الريفي، جدتي كانت كلما رأت البومة تنهرها وتستعيد بالله ،لكنني شخصيا كنت أعتبرها طائر مثير ومختلف ،ومع مرور الزمن أدركت انها جزء من الطبيعة الليلية الموحشة التي كانت تحيط بنا في ليالينا بالريف ،كنا نستمتع برداء الظلام الذي تلبسه القرية كلها،لا وجود للنور سوى ضوء القمر وبريق النجوم فوق رؤوسنا وبعض القناديل التي كنا ننير بها جلساتنا .كان للصمت سر الاهي خاص تستحضره كل جوارحي بخشوع لتلك الليالي الخوالي ،حين تعبر بالذاكرة خاصة وأن بيتنا تحيطبه مقبرة القرية ومقبرة صغيرة أخرى لجنود من اقربائنا ماتوا في الجهاد مع عبد الكريم الخطابي كما كان جدي وجدتي يحكيان لنا . بيتنا كان له موقع روحاني استراتيجي، حتى السنونو كان يعيش معنا في مطبخنا المتواضع .يسود بالليل صمت غارق في العمق يجعلك تسرح في ملكوت الله وفي أمر تدبيره حين يتحول ضوء النهار فجأة إلى ظلام دامس وسكون رهيب يكسره بين الحين والاخر صوت الخفافيش المارقة أو نقيق ضفدع أو نعيق بوم ، تآلفنا برهبة مع عظمة الطبيعة واعتبرنا كل مايدب في الليل جزء من نظام الحياة ،لأن لليل خدامه وحراسه من الحيوانات والبشرأيضا .وعودة إلى زائرتي البومة فإني أتساءل اليوم أي خبر سيء قد تحمله لك البومة ،بعد كل هدا التطور العجيب في وسائل التواصل التي تخبرك بأسوأ الاخبار وأنكرها في حينها وآنها وتحرمك باستمرارمن طعم الاستمتاع بالعطلة ؟مادا تبقى للبوم أن ينقله لنا ؟ شبعنا أخبار القتل والدمارحتى كادت أحاسيسنا تتبلد من فرط الكدر على حال الأمة .من ذا الذي ياترى لازال يستمتع بصمت الطبيعة وظلمة الليل العذرية حتى ينتظر إطلالة بوم يحمل أخبارا مشؤومة؟ لم تعد الانباء السيئة تخيف بعدما ثملنا بأخبار الحروب والفتنة والتقتيل . لقد تلألأت الاضواء وعلا الصخب في هزيع الليل والصراخ والعويل، وكان الناس تهرب من سكون الليل هلعا من رهبة الكون التي تدعونا للتأمل والتعبد في تلك الفترة الزمنية .لليل رواده وزبائنه الدين يدوخون أو يغرقون في العمل إلى ان يبزغ ضوء النهار.البوم في تقديري كائن لطيف خلق ليعيش مع أسرار الليل، وقد تحوله الحاجة لحيوان شرس ليقاوم وجوده كما كثير من البشر الدين لا يقتاتون سوى ليلا ،وطبعا في القوت مذاهب ومأرب شتى .سلام على كل كائنات الليل.