*هذا النص إهداء إلى أرواح الأطفال الذين اختطفهم الموت الرخيص على الطرقات المغربية في مدينة طانطان ، وكل أرواح شهداء اللامبالاة والتقصير في هذا الوطن. ببراءة طفل لم يسعفه الزمن ليكتسب شيئا من خبث الكبار كان يسأل : يا ربي، لقد اتصلت أمي و قالت لي إنها تعبت، لا تطيق الانتظار تريد أن تلحق بي، لكنها يا ربي لا تريد أن تغضبك، ثم يا ربي لماذا أنا هنا في السماء وأمي في الأرض؟ ولماذا توقف الزمن بالنسبة لي يا ربي، لماذا لن أكبر يا إلهي؟ ولماذا أشعر أن جسدي محترق؟ يحمل هذا الطفل في قلبه الحزين الكثير من الأسئلة التي لا أجوبة لها، في الحقيقة هم أطفال كثر وليس طفل واحد، وهو يتحدث باسمهم جميعا وفي جعبته الكثير من التساؤلات المزعجة، من بينها : لماذا لن يكون باستطاعته أن يشاهد مباراة فريقه المفضل في نهاية الأسبوع قبل أن يلتحق بحجرة الدرس يوم الإثنين؟ هم الآن في مكان بعيد، بعيدا عن أحيائهم، بعيدا عن ملعبهم الترابي المفضل، مجردين من أحلامهم الصغيرة البسيطة، هل كان من الضروري أن يتركوا كل شيء ليأتوا إلى هذا المكان ؟ لماذا اختطفوا ورمي بهم هنا ؟ هل يحق لهم الاعتراض على موتهم ؟ يسألون تلك الأسئلة المعقدة التي يتجنب الكبار الخوض فيها ويهربون منها إلى أجوبة أشبه بأقراص "أسبيرين "يتفادون بها تعميق الوجع. نحن الكبار جبناء جدا في الحقيقة، نكذب دائما، ورثنا ذلك عن آبائنا وأجدادنا، لا نقول أبدا الحقيقة للأطفال، تلك الحقيقة التي اكتشفناها وأخفيناها وواصلنا العيش وكأن الموت ليس وفيرا، وكأننا كنا نفرح لأن دورنا لم يحن بعد، أما الأطفال فهم ليسوا مثلنا، لماذا رهننا مصيرنا بمصيرهم، كيف قمنا بزج وجوههم الصغيرة وأجسادهم المرهفة في هذه الجريمة المخزية ؟ ألسنا جلادين لأننا لم نخبرهم سلفا أن هذه الأرض مقبرة جاهزة؟ وأن هذا الوطن ليس شيئا؟ هو أيضا مقبرة تبحث عن أجساد صغيرة مثل أجسادهم، لربما كانوا استطاعوا النفاذ والهرب من هذا المستقبل المرتب لهم سلفا، ربما إلى حديقة ما ينامون فيها إلى حين بعيدا عن هذا العالم الموحش، لكننا تركناهم يبنون تلك القصور الرملية الصغيرة الجميلة، كانت تكبر أمام أعيننا نحن المستسلمون الذين لم نفعل شيئا، كنا كمن يعدهم لمقبرة جماعية. أرواحهم هامدة الآن، لن يكون في وسعهم فتح عيونهم، نحن من أهديناهم مجموعة أوهام قابلة للتصديق، ذهبوا باسمين إلى المذبحة وركبوا الحافلة، التقطوا صورا للذكرى ثم ذهبوا ليلعبوا لعبة الموت. احترقوا في طريق العودة الذي لم يكتمل، تركوا فقط صورهم الأخيرة باسمين ليذكرونا بخطيئتنا الكبرى، احترقوا نيابة عنا. احترقوا ليجيبوا عن أسئلة ساذجة كنا لم نحسم أجوبتها بعد، هؤلاء الصغار حررونا من الانتظار إذ كنا نتردد في حفر قبور افتراضية تسع الموت الذي سيجيء كثيرا في القادم من الوقت، أرواحهم المحترقة تخبرنا أننا عشنا دائما بثياب مسيجة بالدم و لم نكن يوما على قيد الحياة في هكذا بلد، نحن موتى مؤجلون فقط، نحن نموت لأننا رخيصون لا نستحق غير مساحة صغيرة ندفن فيها رؤوسنا وأشياءنا و كل شيء. كان يوميا ربيعيا من سنة مريضة، حدثت المجزرة، لم يعترض القدر، لم يفتح نافذة نجاة صغيرة مشرعة على بصيص أمل، يطل منها رأس طفل صغير. استلم القتلى الجدد وطار بهم بعيدا، هاهم الآن يلتحقون بمن سقطت على رؤوسهم بناية سهوا، أو من داهمتهم الأمطار الإلهية في الطريق أو من دهستهم سيارة مصابة بنوبة صرع،ذهبوا ليخبرونا من هناك أن نجاتنا حتى الآن ليست ترفا على الإطلاق، نحن فقط مجرد رقم ينتظر. لكن غريب أمر هؤلاء الذين يحاولون الآن محاورة الموتى، يحاولون انتزاع صك براءة ذمة منهم، الجميع يحاول الآن التملص من دمائهم، لا أحد يتركهم وشأنهم ليفعلوا ما يحلو لهم، وليقرروا ما يشاءون، الفقهاء ورجال الدين وقفوا أمام شاهد قبر وشرعوا في الدعاء وهم يصوغون نصف الموقف كالعادة،هم أيضا يخونون الموتى، لماذا يتحدثون باسمهم؟ لماذا يطلبون منهم توقيع اعتراف صغير يجرم "القضاء" و"القدر" وحدهما ؟ أما الساسة فيمارسون ابتزازهم الاعتيادي بأن يدعوا علمهم بوصايا القتلى وبقدرتهم على تنفيذها، أما القاتل فيمشي -كما دائما- في الجنازة إلى جانب الأهل المكلومين، وقد يحدث أن يعانقهم ويواسيهم بحرارة، ثم تطوى الصفحة مرة أخرى بمذبحة. لكن القتلى لن يسمحوا حتما لأحد بأن يتاجر بموتهم، سيخرجون ولو بعد حين ليتحدثوا بأنفسهم، ستستيقظ أرواحهم لتعود إلى مكان المذبحة، سيعودون إلى الطريق نفسها، بالملابس ذاتها، وسيعيدون تركيب القصة المبتورة، وربما بأجوبة لتلك الأسئلة المحيرة والأبدية التي طرحوها، سيعودون بملامحهم الساخرة ليرسموا الصورة الجاحظة أمام عينينا : هنا أحرقوهم، هنا ذبحت أحلامهم وهنا سرقت منهم طفولتهم ولم يحرسها أحد أو بالأحرى اغتالها الحارس، وأن لا أحد انتقم لهم من القاتل، لكنهم لن يوبخونا، سيضحكون ثم سيمضون لشغبهم الطفولي. فسلاما على أرواحكم الطاهرة أيها الصغار النائمون على سرير الأبدية، سلاما يا أغصان شجرتنا المحروقة، سلاما يا وجعنا.