الدستور الاول للمملكة المغربية لسنة 1962 وما تلته من دساتير لاحقة الى حدود دستور 1996، كانت تغزوه ثقافة دستورية مستمدة من الممارسة السياسية ومن التأويلات التي كانت تعطى لمجموعة من الفصول، حتى أصبحت عدة أطروحات نظرية تحاول أن تفسير بنية النص الدستوري المغربي، ونذكر على سبيل المثال دستور صريح/دستور ضمني، الطبق الأعلى/ طبق أدنى، الدستور المكتوب/ الدستور العرفي، الدستور الخلافي... وغيرها من الاطروحات التي كانت تهتم أساسا في تأويل ممارسات الملك الراحل "الحسن الثاني"، التي كانت تتجاوز النص وتشرعنها من خلال التأويل، هذا الاخير (أي التأويل) الذي اعتبرت قرأة "با حنيني" له بمثابة التأويل "المقدس". النتيجة النهائية أن المغرب طيلة أربع عقود أو أزيد كان أسير منطق فوق دستوري، مما جعل إحدى الباحثات في القانون الدستوري تلاحظ أن ثلثي فصول الدساتير لم يتم تحريكها.
مما حدا بالفاعل السياسي (ملكية وأحزاب سياسية) والفاعل المدني، إلى بناء نظرية سياسية مغربية محضة تنبثق من الحقل السياسي، وتعتمد أساسا على ما يمكن اصطلاحه حسب الفقه الدستوري "الاتفاقات الدستورية" وهي عبارة عن تعاقدات تتم "تحت دستورية"، فأضحت ممارسة الحياة السياسية، تنقسم الى مستويين: الملك يشتغل ويمارس صلاحيات "فوق دستورية" والاحزاب السياسية وباقي الفاعليين بأدوات وصلاحيات "تحت دستورية".
الادوات "فوق دستورية" من قبيل "أمير المؤمنين"، "السلطان"، "ظل الله فوق الارض"، "الامامة العظمى"... أما الادوات "تحت دستورية" فنجد: "المسلسل الديمقراطي"، "التناوب التوافقي"، المنهجية الديمقراطية"...
فانخرط الجميع في مؤامرة "اغتيال" النص لصالح التوافق، وجعل الكواليس محددة للسياسات العمومية ولباقي مجالات الحياة العامة.
اليوم مع دستور فاتح يوليوز2011، والذي حسم في العديد من الاشكاليات الدستورية، وتمت دستورة هاته "الاتفاقات الدستورية" بنصوص صريحة لا غبار عليها، ومع ذلك، فإن الفاعليين بجميع مستوياتهم لازالوا يمارسون ويأولون الممارسات السياسية بمنطوق وروح الدساتير السابقة.
على مستوى المؤسسة الملكية، فإنها لازالت تنظر الى الدستور الجديد بمنظار الماضي، رغم أن الفصل 49 من الدستور والقانون التنظيمي للتعيين في المناصب العليا، حصر مجال تدخلها في القضايا الاستراتيجية، فإننا لا ننفك نتابع على قنوات القطب العمومي الخرجات اليومية للملك في التدشينات واطلاق مشاريع هنا وهناك، والتي تدخل في صميم العمل اليومي الحكومي أو الجماعات المحلية أي في مجالات السياسات العمومية الوطنية والمحلية. وهي ممارسات مثل عملية قيصرية تجرح الدستور الجديد بمقص الدستور الماضي.
أما على مستوى رئاسة الحكومة، فهي لم تستطع بعد التخلص من الإرث الدستوري الثقيل، وتنظر الى علاقتها برئاسة الدولة بمنظار "أكبر خدام العرش"، وليس وفق علاقة تقاسم السلطة وفق النص الصريح للدستور داخل السلطة التنفيذية.
فالفصل 48 من الدستور يعطي لرئيس الحكومة أن يطلب من الملك أن يعقد اجتماع مجلس الوزراء من أجل التداول حول إحدى النقط المنصوص عليها في الفصل 49، ونذكر هناك مشاريع القوانين-الاطار المنصوص عليها في الفصل 71، التي تبقى معلق الى حين "انعقاد المجلس". عدم تحريك لحدود اللحظة لرئاسة الحكومة للفصل 87 من الدستوري الذي بموجبه يتم تحديد القواعد المتعلقة بتنظيم وتسيير أشغال الحكومة والوضع القانوني لأعضائها. كانت إشارة استقبال الملك لمديرة قسم الأخبار بالقناة الثانية (حسب ما تداولته المواقع الصحفية دون صدور خبر تكذيب من قبل الجهتين) كافية ليعطل رئيس الحكومة الفصل 89 من الدستور الذي يجعل الإدارة موضوعة تحت تصرفه ، كما يمارس الإشراف والوصاية على المؤسسات والمقاولات العمومية، ويسحب (رئيس الحكومة) البساط حول "دفاتر التحملات" من تحت أقدام "وزير الاتصال" ومنحها ل "وزير الاسكان".
لجوء الحكومة الى خلق مجالس ولجن قطاعية من أجل الاستشارة في أخذ الاراء حول قضايا عدة مثل الصحافة والمناصفة والمجتمع المدني وغيرها، تعصف بالمؤسسات الحكامة وحقوق الانسان والمجلس الاقتصادي والاجتماعي، وهي ذات الاختصاص الاصلي والدستوري في تقديم الرأي والمشورة، وخاصة إذا علمنا أن المجلس الاقتصادي والاجتماعي الذي يضم في عضويته كل القوى الاجتماعية والمدنية والسياسية ولم يطعن أحد فيه، يمكن حسب الفصل 152 بأن "للحكومة ولمجلس النواب ولمجلس المستشارين أن يستشيروا المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي في جميع القضايا، التي لها طابع اقتصادي واجتماعي وبيئي"، وأمام غياب هذه المبادرات يضطر المجلس الى إصدار أراء وفق "الاحالة الذاتية"، نفس المعطي نجده لدى المجلس الوطني لحقوق الانسان، الذي صنفته لجنة التنسيق الدولية كمؤسسة مستقلة وذات تمثلية لكافة النسيج الاجتماعي والسياسي والمذهبي، وأشاد مجلس الامن الدولي في قراره 1970 به وبلجنه الجهوية، كما أن المقرر الامم لدى الامين العام للأمم المتحدة حول مسألة التعذيب دعا أكثر من مرة الحكومة الى التعاون مع المجلس الوطني والأخذ بملاحظاته وتوصياته، والامين العام للامم المتحدة بتاريخ 8 أبريل 2013 قال بشكل رسمي أن إحداث "المجلس الوطني لحقوق الإنسان ولجنه الجهوية يُعتبر تطورا إيجابيا، فإنه يتوجب على الحكومة أن تقدم مزيدا من الدعم لتنفيذ توصياته بما يكفل قدرة هذه المؤسسة على حماية حقوق الإنسان والحفاظ على مصداقيتها".
ومع ذلك تضطر الحكومة الى نسف هذه المؤسسات من خلال تأسيس آليات "توافقية" و"تحت دستورية" وتلغي الاختصاصات الدستورية الصريحة لدى مؤسسات الحكامة وحقوق الانسان بتقديم الرأي الاستشاري. فهل نقتضي برأي مؤسسة دستورية أم رأي آلية "تحت قطاعية" في حالة التنازع؟
أما على مستوى المعارضة البرلمانية، فإنها لم تخرج من جلباب الماضي وتؤسس لصلاحياتها وفق ما يخولها لها الدستور بناء على الفصل العاشر، فإن لها المباردة في سن قانونها الذي ينظمها قبل مطالبة الحكومة بسن قانون ينظم اختصاصها.
والمعارضة المؤسساتية، التي انخرطت في سجالات الشوارع والمقاهي والحانات داخل البرلمان، لم تستطع أن تتكيف مع الدستور الجديد وتساءل وتبادر من خلال التعاقدات الدستورية، إنما من خلال التصريحات والتصريحات المضادة للحكومة وتحولت من معارضة برلمانية للحكومة الى معارضة أفراد لرئيس الحكومة ووزراء العدالة والتنمية.
ويبقى العبث الاخير لدى الاحزاب السياسية، فإن كان قطار الدولة يمشي بسرعة فائق وقطار المؤسسات (حكومة وبرلمانية) بسرعة الشاحنة الممتلئة برواسب الماضي، فإن الاحزاب لا تسير أصلا، وتدور حول نفسها، إما مستسلمة لقرار خارجها، أو تلعب أدوار "كومبارس" لتصورات فوقها، لن نطيل في موضوعة الاحزاب لأنها اخر من تأثر أوسوف يتأثر بالدستور الجديد.
عموما الدستور في حاجة لحامله، ولكن ب"ثقافة دستورية" جديدة تجعل من النص هو أساس التعاقد وترد للمكتوب "حرمته" وتقطع مع الثقافة التقليدية التي دعمت السلطوية لسنوات وتأسيس لثقافة انتقالية قادرة على جعل الدستور الجديد مدخل للانتقال الديمقراطي بمنطوقه وليس بباطنه.
الانتقال من مطالبة بتقليص صلاحيات المؤسسة الملكية الى مطالبتها بممارسة صلاحياتها الدستورية وفقط؛ الانتقال من لغة "التعاقد" بين رئيس الحكومة والملكية فيما بينهما الى منطق اشتغال السلطة التنفيذية برأسين؛ الانتقال من برلمان غرفة التسجيل والتشكي الى برلمان مشرع أصلي ورئيسي، وأن ينافس المخطط التشريعي الحكومي بمخطط تشريعي برلماني؛ الانتقال من معارضة أفراد الى معارضة البرامج والمشاريعي؛ الانتقال من صراع المواقع والمسؤليات الى صراع حول المشروع المجتمعي المنشود؛ ومن حق معرفة أصحاب رخص النقل والصيد البحري ومقالع الرمال الى الحق في الوصول للمعلومة؛ الانتقال من "التوافق" على امتحان "النص"؛ ومن سؤال "التأويل" الى سؤال "التطبيق".