حين أطلت ثورة الياسمين بتونس، كان الجميع يظنها ثورة سيشتم معها الشعب التونسي عبق الحرية والكرامة وسيرفلون في دمقس وحرير الكرامة والمساواة والعدالة الإجتماعية، لكن رياح الشركي القادمة من المشرق بتشددها وتطرفها لم تترك لزهرة الياسمين فرصة لتنمو وتطلق العنان لروائح الزكية. وقع مالم يكن في الحسبان، فاشتد عود جماعات التطرف، وظهرت أخرى تدعي امتلاك حقيقة الكون وأنها الفئة الناجية من أبناء الشعب التونسي ومن دونهم فئة ضالة لا تستحق سوى القتل والموت. الشهيد شكري بلعيد كان أول ضحية للفكر المتطرف والأصولي القادمة رياحه من الشرق، ذهب عقلية لا تؤمن بالتعددية والإختلاف ولا التعايش والتسامح، فكان أن أهدرت دمه بدعوى أنه ملحد وكافر .. هكذا...!
أسلم شكري المدافع عن الحريات والحقوق الروح لباريها، لكن المتطرفين لاحقوه حتى في قبره، فمن أزهقوا روحه لم يستسيغوا أن يسير خلف نعشه الآلاف من التونسيين، وعقدوا العزم على نبش قبره واخراج جثمانه بدعوى أنه ومرة أخرى «كافر وملحد» ولا يجوز دفنه في مقابر المسلمين». ! وكأنهم كهنة يفرقون صكوك الغفران ومتناسين أن الدين لله وحده وهو من يجازي عليه، وأن الإعتقاد في دولة المواطنة والحريات الفردية ليس شأن حراس المعبد الجدد.
ولأنهم يدعون احتكار الدين، وأن فهمهم هو الوحيد الصحيح، فإنهم مصرون على الإستمرار في غيهم، استخسروا على الشهيد أن يغسل ويكفن وأن يدفن في مقبرة المسلمين، وتناسوا أنه سبق أن قال بعظمة لسانه أن والده حفظه القرآن منذ صغره وأنه (بلعيد) حفظ بدوره القرآن لابنته، لكنه ليس مشعوذا ممن يستغلون الدين في السياسية، بل من التقدميين العلمانيين الواعين بأن الدين والوطن للجميع يحق لكل مواطن متدين وغير متدين أن يعيشوا فيه بكرامة دون تمييز ولا اقصاء. رياح التطرف والتزمت التي هبت على تونس لم تستثن جارتها مصر، فهي بدورها تعيش موجهة التكفير، وهي التي عانت من جرائم باسم الدين كان ضحيتها الشهيد فرج فودة وامتدت حتى إلى نجيب محفوظ، كما لم يسلم من ملاحقتهم أبرز الفنانين والمبدعين والصحافيين والأقلام التي شاءت أن لا تدنس الدين بالسياسة وأن تكون لسان العقل الحر النسبي.
في مصر الثورة، ظهرت من جديد خطابات الكراهية التي تتمسح بالدين بعد فتوى الجاهل محمود شعبان الذي يدرس، للأسف، بجامعة الازهر، وهو الذي أفتى بجواز قتل كل من محمد البرادعي رئيس حزب الدستور وحمدين صباحي رئيس التيار الشعبي وباقي أعضاء جبهة الانقاذ، والسبب في نظره هو معارضتهم للرئيس مرسي ودعوتهم لانتخابات رئاسية مبكرة!!!! متناسيا أن المعارضة ضرورية في المجتمعات الديمقراطية لتأمين التداول على السلطة، لكن يبدو أن أمثال المتطرف الذي يدعي المشيخة يعتقد أن حلم المتطرفين في إقامة نظام «الخلافة» قد تحقق، وإن ليس أبدا وأبدا نظاما اسلاميا والعهدة على الشيخ علي عبد الرزاق أبرز شيخ الأزهر في بداية القرن المنصرم.
قد لن تتوقف موجة التكفير، فعقل ثورات الربيع الديمقراطي لم ينصت لحقيقة انتظارات الشعوب في العلم أولا والكرامة ثانيا والعدالة الإجتماعية، فوقع ضحية عصابات الدجل الديني بعقليتها المطلقة وبحلولها اللاهوتية لن تزيد سوى في تأزيم أوضاع العباد الإقتصادية والإجتماعية وإعادتهم إلى زمن القرون الوسطى كما عاشتها أروبا البابوية حين تحكم الكهنوت في رقاب البلاد والعباد وفي دنياهم وآخرتهم.
يتناسى من يقود حملات التكفير في مجتمعات الثورة، أن الإستبداد له وجه واحد، فلا فرق بين تسلط بنعلي ومبارك والقدافي وغيره وبين تسلط إيديولوجيتهم المتشددة والتي لا علاقة لها بشرع الله، وأن الدولة الدينية هي دولة استبداد، وأن التحرر من القيود لا يمكن أن يكون إلا في ظل الدولة المدنية التي تحمي الدين وتحمي حرية المعتقد انطلاقا من احترام عقيدة الحرية، وديمقراطيتها تستمدها من حمايتها للدين نفسه وسن القوانين لمنع استعمال الدين في السياسة ورسم الحدود بين المجالين بشكل تحول معه دون استغلال الأول في مجال الثانية، بل وتحمي الأديان من غير المتدينين ومن سيطرة إحداها على الأخرى.
إن المواطنة الحقة، التي يجهل معناها التكفيريون الجدد، لا يمكن أن تعاش إلا في مجتمع يعترف بأن الدين لله وحده ولا يمكن أن يكون مصدر شرعنة أي نظام حاكم أو حزب سياسي أو جماعة دينية تحسب نفسها الناجية دون غيرها، لأن ذلك سيجعله يستمد شرعية سلطته من السماء ويصبح ظلا لله في الأرض، بدل أن يستمدها من الأرض نفسها ومن الشعب الذي يفوض له تسيير أمور دنياه دون آخرته. وأن الدولة الدينية لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون دولة الحريات لأن الديمقراطية لا يمكن أن تتوطد في دولة الشريعة، ويستحيل أن يتعايش فيها معتنقو باقي المذاهب ومواطنوها ممن اختاروا دينا آخر أو شاءوا أن يكونوا لادينيين.
لذلك فحين تسود عقلية التكفير فإن العقل المفكر يظل محنطا، وبذلك يدق المسمار في نعش عقيد الحرية ويضرب أسمى مبادئ الدولة الديمقراطية عرض الحائط، وإن كان بنيان الدولة يكون متينا بالديمقراطية وباحترام عقيدة الحرية وضمنها حرية المعتقد وليس بقوة السلطة وأدلوجتها... إنهم بذلك يزرعون بذور الحقد والكراهية في مجتمعاتهم بدل أن يزرعوا حب الحياة وعبق الياسمين.. فبئس زمن التكفير بلا تفكير...