سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
حكمة مؤرخ. حسن أوريد يدعو الشباب إلى "العمل السياسي العميق" وينبه إلى أهمية "القراءة السياسية" للدستور. قال "حتى في وزارة الداخلية هناك من لهم تصور حول الصالح العام لكنهم أقلية همشت"
لثاني مرة، بعد مداخلته في ندوة نظمتها جريدة "أخبار اليوم المغربية" عشية 20 فبراير 2011، يقدم حسن أوريد عرضا نقديا لعشر سنوات من "موت السياسة" و"تمييع الحقل السياسي"، في شريط بثه موقع "ما مفاكينش" يوم أمس السبت لوقائع الندوة الأولى من الجامعة الصيفية لجميعة "كابديما". أهمية هذا النقد لا تتجلى فقط في شجاعة صاحبه، بالنظر للمواقع التي احتلها في هرم السلطة وما يمكن أن تفرض عليه من قيود، بل أيضا في سؤال المستقبل الذي يطرحه في المرة الثانية التي يستعرض فيها مسار "قتل السياسة" في ندوة "كابديما". الشباب استنفدوا مسؤوليتهم في الحراك جرأة أوريد حاضرة أيضا في الاختيار الإيديولوجي الذي يتضمنه جوابه عن سؤال المستقبل هذا. إذ يخرج عن إطار الأجوبة السائدة والمألوفة في أوساط الداعين للتغيير، والتي تعول عادة على "الجماهير الشعبية" و"الشارع" على افتراض أنها لا تحتاج إلا لمن يقودها في الشارع. الجواب بالنسبة إليه لا يركن إلى هذه السهولة، فالتغيير لا يمكن أن يتم إلا عبر "العمل السياسي العميق"، الذي يدعو إليه الشباب. رغم أنه يتحدث إلى الشباب الحاضر لندوة "كابديما" إلا أن السياق يظهر أنه يخاطب شباب حركة 20 فبراير، ويدعوهم إلى عدم الاهتمام بالتنزيل الديمقراطي للدستور أو الحراك في الشارع والتركيز بالأحرى على العمل السياسي العميق. يقول أوريد في مداخلته "أعتقد بأن المسألة على الأقل في مستواكم ليست في ما يسمى التنزيل الديمقراطي للدستور الذي هو من مسؤولية الحكومة، المسألة أعمق. مسؤولية الشباب في اعتقادي ليست لا التنزيل الديمقراطي للدستور ولا الحراك، فعمل الشباب استنفذ في ما يخص الحراك". عناصر هذا العمل السياسي العميق يحددها أوريد في ثلاثة مستويات: "تحديد الأهداف، ووسائل تحقيق هذه الأهداف، واستحضار التجربة الإنسانية". بالنسبة للأهداف يقول أوريد "لست مخولا لأقول لكم ما هي أهدافكم، ولكن لا يمكن أن تكون بمعزل عن التضيحات التي خاضتها الأجيال السابقة سواء ضد الاستعمار أو من أجل بناء دولة ديمقراطية حداثية". النظرة الاستراتيجية والتأقلم التاكتيكي أما وسائل تحقيق هذه الأهداف فتفرض، في رأي أوريد، "نظرة استراتجية" لكن أيضا "تأقلما تاكتيكيا". هذه المعادلة يشرحها قائلا "العمل السياسي يفترض تنازلات مرحلية وتحالفات تاكتيكية. ليس من الضروري الذوبان في مرجعية معينة ،ولكن يمكن التعامل وفق حالات معينة بناء على مصلحة آنية مع أطراف أخرى". وسائل تحقيق الأهداف تفترض كذلك، يضيف أوريد، "تحديد ما أسميه بالتناقض الكبير والتناقض الصغير" في إحالة على أدبيات ماركس. أطروحة تبدو قريبة إلى مفهوم "المصلحة" كما يشرحه المؤرخ عبد الله العروي في فقرات مختلفة من مؤلفاته، داعيا إلى اعتماده محددا أساسيا للعمل السياسي، بدل بناء المواقف السياسية على أساس "المأمول"، سواء كان هذا المأمول كما يتصوره الشيخ أو الثوري التقدمي (الإيديولوجيا العربية المعاصرة والعرب والفكر التاريخي). أوريد يبدو قريبا من أطروحة العروي، أيضا، في تفسيره للعنصر الثالث من عناصر "العمل السياسي العميق"، حين يقول "من جانب آخر ينبغي استحضار التجربة الإنسانية. نحن لسنا بمعزل عن التجارب الإنسانية، فكثير من الأسئلة التي نطرحها الآن طرحت في مجتمعات أخرى. ما تعيشه الشعوب العربية يذكر بما عاشته الشعوب الغربية حين قام فلاسفة الأنوار في فرنسا وقالوا لا يمكن الحصول على امتيازات بالنظر إلى المولد والوضع الاجتماعي، ولا يمكن الركون إلى العادات والتقاليد في تسير الشأن العام". العروي يبني مشروعه الفكري على مسلمة مفادها أن المغرب والعالم العربي لا يمكن أن يتجاوز التأخر التاريخي دون استيعاب الفكر اللبيرالي، وهو فكر تبلور بالأساس في عصر الأنوار الذي يتحدث عنه أوريد. قراءة سياسية للدستور ملمح آخر للجرأة الإيديولوجية في أطروحة أوريد، يتجلى في دعوته إلى التمييز بين القراءة القانونية والقراءة السياسية للدستور الحالي. بينما يلح الخطاب السائد في معسكر اليسار الراديكالي الداعي إلى التغيير على الدستور، وكأن شيئا لم يقع في فاتح يوليوز 2011، ينبه أوريد إلى "القراءة السياسية" لهذا الدستور. يقول في هذا الصدد "أنا شخصيا أجريت قراءة سياسية للدستور (...) من الناحية القانونية هناك فعلا محاولات تلفيقية وكثير من البياضات وبدعة القوانين التنظيمية التي تجعل النص الدستوري غير مكتمل، لكنني لا أريد أن أقف عند الجانب القانوني ما كان يهمني هو القراءة السياسية. من الواضح اليوم، بعد القانون التنظيمي للتعيين في المناصب السامية، أن تأويل الدستور لا يسير في الاتجاه الديمقراطي، لكن هذه ليست معركة الشباب". ذلك أن المضمون العملي ل"العمل السياسي العميق" يجعل الشباب مطالبا، في نظر أوريد، ب"نقل معركتهم إلى إطار آخر هو تغيير الثقافة السياسية. هذه هي المعركة الحقيقية. لكن ليس لوحدكم، بل لا بد أن تعملوا مع أطراف أخرى داخل الأحزاب بل داخل الدولة أيضا. داخل وزارة الداخلية، التي كنت أعرف، أشخاص لديهم تصور حول الصالح العام ومفهوم الدولة كما هو في الغرب، لكنهم مهمشون. هناك فعاليات يمكن أن تحمل التغيير غير موجودة في مكان واحد فقط". ماذا عن المشاركة في الانتخابات؟ غير أن دعوة أوريد هاته لا تذهب إلى حد دعوة الشباب المناضل من أجل التغيير إلى حد الترشح للانتخابات ونقل معركته إلى داخل المؤسسات. على اعتبار أن هذا هو المآل الطبيعي ل"العمل السياسي العميق". المؤرخ السابق للمملكة يكتفي بدعوة الشباب إلى الانفتاح على فعاليات التغيير داخل الأحزاب والدولة والأحياء الشعبية والمناطق النائية، دون أن يدعوهم بوضوح إلى ممارسة هذا "العمل السياسي العميق" داخل المؤسسات التمثيلية التي يفترض أنها مهيأة أصلا لهذا العمل. خاصة أن لدينا في المغرب تجربة مهمة لا تحظى بما تستحق من متابعة تحول فيها "ثوار" من ساحة الحراك والسجن إلى مكاتب المجلس البلدي في مدينة سيدي إيفني. من يسير اليوم إيفني، إلى جانب السلطة المحلية طبعا، ليس سوى قادة الحراك الذي عاشتة المدينة سنة 2008. صحيح أن هذا الموقع المؤسساتي لن يمكنهم بالضرورة من تحقيق كل مطالب الحراك الذي كانوا قادته، لكنه على الأقل يؤهلهم لذلك. هذا في حد ذاته إنجاز كبير، ما دام أن الشارع والمواجهة مع السلطة لم تمكن هي الأخرى من تحقيق كافة المطالب.