إصلاح منظومة العدالة لا تستقيم بانخراط الفاعلين المباشرين فيها من ضابطة قضائية وكتابة ضبط وأعوان قضائيين وقضاة وغيرهم فقط، بل تستلزم حوارا مجتمعيا يُشرِكُ الفاعلين المجتمعيين، والاقتصاديين والسياسيين والإداريين، ليصبح القضاء سلطة عليا، محترمة في أحكامها عبر كل مراحل التقاضي ومقدسة في قراراتها النهائية، التي تأخذ صفة الشيء المقضي به، ولا يمكن بأي حال من الأحوال الطعن فيها ولا استبدال منطوقها... واقع الحال، لا يعبر عن هذه الإرادة، فالعديد من الإدارات وبعض الشخصيات النافذة في المجتمع، سواء من النخب السياسية أو الاقتصادية، لا تزال تعتبر قرارات القضاء دون الإلزامية التي تقتضيها، وتعتبر نفسها أو قراراتها هي الصحيحة، وذات السريان ضد ما يصدر عن المحاكم، باسم القانون الذي هو تعبير عن توافق الأمة على تدبير خلافاتهم بينهم، أو باسم الملك، الذي يعتبر رمز العدل كما ينبه لذلك دستور الفاتح من يوليوز..
مناسبة القول، تفجر قضية ما يعرف بالسيد عمر لفتيل، الذي كان يشغل مراقب مساعد بمصلحة المحافظة العقارية بخريبكة، والذي تم عزله بشكل تعسفي من طرف ذات الإدارة سنة 1997، الأمر الذي دفعه ، كأي مواطن يثق في العدالة، إلى رفع دعوى من أجل إنصافه وإرجاعه لعمله... جرت الدعوى التي حملت رقم 533/2003 في طورها الابتدائي أمام المحكمة الإدارية بالرباط، والتي أصدرت حكما يحمل رقم 1213 بتاريخ 05/10/2006 قضى بإلغاء قرار العزل، مع ترتيب الآثار القانونية بما يعني ضرورة رجوع المعني بالأمر لعمله مع أداء جميع مستحقاته منذ تاريخ العزل.
إلى هنا لا زال من الحق الإدارة الطعن في الحكم، بواسطة الاستئناف، وهو حق مارسته , ليتم تأييد الحكم من طرف محكمة الاستئناف بالرباط، وفق منطوق القرار رقم 800 الصادر بتاريخ 11/06/2008 في ملف عدد 04/07/8..والذي لم يرقها، مثله مثل الحكم الابتدائي، فلجأت للطعن فيه أمام المجلس الأعلى، الذي خيب رجاءها، فأصدر قراره بتاريخ 25 مارس 2010 تحت عدد 207 في الملف عدد 424-4-1-2009 القاضي برفض طلبها، وبالتالي تأييد الأحكام الابتدائية والإستئنافية...
في هذه المرحلة من التقاضي، يصبح الحكم شبه مقدس، ويعبر عن حقيقة يؤمن بها المجتمع برمته، عبر القضاء الذي انتدبه للفصل في نزاعات أفراده، سواء بينهم كأشخاص أو بينهم وبين إدارات ومؤسسات، عمومية أو خاصة، وفي هذه المرحلة بالضبط، كان على إدارة المحافظة العقارية أن تخضع لحكم العدالة، وتنفذ منطوقه، لكنها تصرفت عكس هذا، ضاربة عرض الحائط قدسية الأحكام القضائية من جهة، وعاملة على تفاقم وضعية مواطن كابد الجوع هو أبناءه منذ ما يقارب العشرين سنة... امتناع الإدارة عن تنفيذ هذا الحكم، الموثق في محضر الامتناع، المؤرخ في 25 أكتوبر 2011، موضوع ملف التنفيذ عدد 658/08/1 يفتح أبواب التسيب في تدبير هذا المرفق على مشراعيه، لما يسببه في خسارة المال العام باضطرارها لأداء المستحقات على شكل أجور لعمل لم ينفذ بسبب تعنتها وتحقيرها لقرارات قضائية من جهة، وبسبب تلكؤها في دراسة الملف لحظة ولادته، إذ لم يكن محتملا أن يفتح على هذه الخسائر...
ما أقدمت عليه الوكالة الوطنية للمحافظة العقارية، ليس سوى جزء بسيط فيما يمارس في إدارات ومرافق الدولة، والتي يمكن لمعالجتها واقتراح الحلول بشأنها، أن يوفر على خزينة الدولة الكثير من المال التي هي في أمس الحاجة إليه، وترسيخ قيم العدالة واحترام القضاء وحجية الأحكام لدى العاملين بها، من أطر ومستخدمين وغيرهم...هذا إن لم يكن وراء هذه الممارسات لوبيات وعصابات تستفيد من هذه الرداءة...فالأحداث التي نعيشها تنبأنا بالأفضع....