حينما استقدم الملك إدريس بنهيمة وعينه واليا على الدارالبيضاء في صيف 2001، لم يكن هذا التقنوقراطي ولد دار المخزن، يعني أنه في مهمة لاختبار مدى تجذر البارونات بالدارالبيضاء وهل بإمكان الوالي التقنوقراطي المغرب من محيط القصر ترجمة شعار «نعم..الدارالبيضاء مدنية قابلة لأن تدار بشكل عقلاني وعصري». إذ ما أن طرح بنهيمة المشاريع المهيكلة الضخمة لتخفيف الاختناق المروري باالدارالبيضاء وفتح جاذبية المدينة لضمان تألقها حتى انتفض البارونات لنسف المخطط الذي(أي النسف) مازالت المدينة تؤدي ثمنه إلى اليوم. ففي بداية 2002، إن لم تكن ذاكرتي مثقوبة، حصل الوالي إدريس بنهيمة على الضوء الأخضر من وزارة الداخلية للبدء في أجرأة تصوره القاضي بتمكين المدينة من بنية تحتية لائقة، ولهذا الغرض مكنته الوزارة الوصية بغلاف مالي بلغ في الشطر الأول حوالي 16 مليار سنتيم على أساس أن تحول مبالغ الأشطر الأخرى فيما بعد.
حالما توصل بنهيمة بالغلاف المذكور استدعى رئيس المجموعة الحضرية آنذاك سعد العباسي لإخباره بالبدء في وجوب إنجاز مقطع شارع تادارت (الهاشمي الفيلالي حاليا) وقنطرة مرجان ومداخل الحي الصناعي بالبرنوصي. وقد أعطيت الأولوية لهذه النقط الثلاث بالنظر إلى أن فتح شارع تادارت عبر
(la rocade) ربطه بالأوطوروت
سيجيب على الضغط العمراني الذي تعرفه مقاطعة عين الشق التي شهدت (ومازالت) نموا عمرانيا هائلا، فيما الأولوية أعطيت لمرجان كاليفورنيا بسبب الجحيم الذي يصلى بناره سكان الحوض الغربي للمدينة وما يرافق ذلك من تعطيل الدينامية بهذه المنطقة التي استوطنت بها كبريات الشركات الوطنية والأجنبية، فضلا عن كونها معبرا نحو باب المغرب (أي مطار محمد الخامس الدولي). أما اختيار الحي الصناعي بالبرنوصي فكان بسبب الحكرة التي عانى منها أرباب المعامل بهذا الحي وإهماله من طرف كل الحكومات والمجالس المتعاقبة علما أن الحي الصناعي يضم 600 شركة توظف 55 ألف فرد ويساهم ب10في المائة من الناتج الداخلي الخام الوطني.
إلا أن الخطأ الذي ارتكبه إدريس بنهيمة أنه استجاب لمطلب رئيس المجموعة الحضرية الذي أفتى على الوالي بوجوب عرض هذا المشروع على المنتخبين بدعوى «تجنب الاتهام بأن الدولة تهمشهم»! فعلا استسلم بنهيمة للمطلب، وهو الاستسلام الذي سيؤدي بالدارالبيضاء إلى ضياع 13 سنة أخرى من الفرص. إذ انتفض في وجه الوالي تجار الانتخابات قائلين꞉ «لماذا تخصص هذه المبالغ لحي شريفة ورياض الأندلس وكاليفورنيا، فأولئك أغنياء (!) عليهم أن يسددوا مصاريف شارع تادارت من مالهم (!).
لماذا تخصص هذه المبالغ للرأسماليين بالبرنوصي أصحاب «لوزينات».هذه الصفقة يجب أن تخصص لتزفيت الأزقة بالكاريانات لأن الناس هناك هم الذين يصوتون علينا»!
أمام الحملة الشرسة التي خاضها مافيا الانتخابات اضطر الوالي بنهيمة إلى تجميد المشروع وحرمان الدارالبيضاء من 16 مليار كشطر أول وبالتالي حرمانها من مشاريع مهيكلة طرقية أخرى إلى ما بعد أحداث 16 ماي 2013 حينما اكتشفت الدولة أن كل الانتحاريين خرجوا من الكاريانات واكتشفت أن معظم الخلايا الانتحارية «عششت» في الكاريانات التي كان يحميها تجار الانتخابات. من هنا نفهم ذاك القرار الملكي الصارم بوجوب اجتثاث الكاريانات بالدارالبيضاء ونفهم إحياء الدولة لمشروع بنهيمة عام 2006 القاضي بإرجاع 70 مليار سنتيم للدار البيضاء التي أنجزت بها المداخل الطرقية الرئيسية في عهد الوالي الظريف والوزير كريم غلاب ابتداء من مطلع عام 2005.
اليوم، ونحن نعيش تسخينات تحضيرا للانتخابات المقبلة تواطأت المافيا لإقبار الاقتراح القاضي بإحداث قانون خاص للدار البيضاء في الوقت الذي كانت المصلحة العليا تقتضي التعامل معه بجدية مع مراعاة كيفية التوازن بين المطلب الديمقراطي في اختيار المنتخبين وتمكينهم من اتخاذ القرار الذي يهم مدينتهم من جهة وضمان وجود آليات تحرص على رصد الحاجيات الملحة للمدينة وفق منظور ميتا انتخابي وتتولى إنجازها بدون تكون رهينة بيد جاهل أو بزناس، في هذا المجلس أو ذاك من جهة ثانية.
إن الملك محمد السادس حينما اقترح مشروع الجهوية فلكي تتمكن كل منطقة من تحقيق التنمية السريعة بما يحسن جودة العيش لسكان الجهة وللمغاربة عموما. لكن للأسف كان البارونات في الدارالبيضاء وفي الإدارات المركزية للوزارات أكثر المعادين لهذا التصور، لأنه ليس من مصلحتهم أن تكون الدارالبيضاء
تدار بهذا الشكل المقترح، لأن مصالح البارونات مع المافيا ومع بعض المنتخبين ومع الإدارات المركزية توحدت حول غاية واحدة ألا وهي خلق الانطباع بأن الدارالبيضاء يصعب أن تدار وأن تسير
وتوحد حول غاية واحدة تتجلى في تصوير الدارالبيضاء وكأنها «غول»، والحال (Ingouvernable)
أن العالم المتمدن يعج بمئات المدن أكثر مالا وأكبر مساحة وأضخم عددا من حيث السكان مقارنة مع الدارالبيضاء، ومع ذلك تدار بشكل جيد وفعال وشفاف.
افتتاحية العدد 522 الخميس 6 يونيو 2013 تنشر في "كود" باتفاق مع الناشر