أقدمت وزارة الداخلية الإسبانية، بتوصية و تزكية من مركز الاستخبارات الاسبانية، بطرد المواطن المغربي المقيم بإسبانيا مند 1999، نور الدين زياني باتجاه المغرب، بالنظر إلى اتهامه بالعمالة للمغرب و التخابر على اسبانية. فِي صك الاتهام الذي يُبرًر طرد المُتَهم، بِحسب مُذكرة الاستخبارات الاسبانية المُسربة في الصحافة الاسبانية، نجد "تَهديد الأمن القومي.. و المساس بعلاقات اسبانيا مع دول أخرى.. و التعاون مُنذ سنة 2000 مع استخبارات أجنبية". فَبِعَملية حسابية بديهية، نجد أنَّ المُتَهم، صراحة أو بُطلانا، نُسبت إليه ثلاث تُهم جِد ثقيلة تقشعر لها الأبدان. في صك الاتهام أيضا، بحسب التسريبات الاعلامية الاسبانية التي أوردت التقارير الاستخباراتية التي قُدمت للحكومة الاسبانية حتًى تبث في النازلة، نجد، من دون إثبات يُذكر، تنظيم تظاهرات مؤيدة لمغربية الصحراء في اسبانيا و نية التَحكم في مساجد كاتالونيا و انتداب أئمة على مقاسه مُستغلا غطاء اتحاد المراكز الثقافية الإسلامية في كاتالونيا الذي أنشئه سنة 2010 و توسيع نطاق أنشطته الاختراقية لتشمل فالنسيا و أراغون والبليار و الباسك و الإعداد لإنشاء اتحاد للطوائف الدينية في اسبانيا بغية الاشتغال خارج اللجنة الإسلامية في إسبانيا، أعلى هيئة تمثيلية للمُسلمين في البلد.
لفهم اللُّغز و ملابسات الطرد، مشروعا كان أم تعسفيا، نقوم بتفكيك و إعادة تركيب الاتهام و البحث عن الحلقات المفقودة، المُستترة مِنها و المُتستَر عليها و نُعيد بناء قِوام الحِبكة من جديد لفهم اللُّغز و معرفة الحبكة، بمعنى آخر، هل يتعلق الأمر بلعب كبار أم صغار و هل التوليفة مِهنية أم مُرتجلة .. و ذلك بتقديم الخيوط الرفيعة و دقائق الأمور التي تَغِيبُ عن أذهان البعض و حذافير الأمور التي يجب أن يستحضرها المرء عند قراءة الأمور بخلفية حب الاستطلاع و الفضول المعرفي من دون اصدار أية أحكام.
فالرغم من أن المنابر الصحفية التي قامت بتسريب ملابسات و وقائع النازلة لم تُشر بالأصبع إلى هوية جهاز استخباراتي بعينه، إلا أن الأرجح، بالنظر إلى أصول نور الدين زياني و الوجهة التي تم ترحيله إليها، يوحيان بأن الأمر يتعلق بالاستخبارات المغربية، بالذات المديرية العامة للدراسات و المستندات. بعبارة أكثر دقة، استخبارات دولة لها حساسية غريزية و جد مُفرطة في اسبانيا، خصوصا في الأوساط المخابراتية، بالنَظر إلى كثرة الصدامات التاريخية، العلنية و السرية، في العديد من مناطق التماس.
فَلفَهم مجريات و أبعاد النازلة، نطرح العديد من التساؤلات مع تقديم العديد من القراءات. فهل أولا يتعلق الأمر بحُجة أم ذَريعة؟ أم أنَ المسألة تُعتبر فعلا فتحا مُبينا بالنسبة للدولة الاسبانية أم بالجهة المقابلة فشلا ذريعا لنفس الدولة؟ أَم أن المسألة تتعلق بعملية تأثرية أم أننا فعلا بصدد صَيد ثمين يجب على اسبانيا أن تفتخر به؟ أم فقط مُجرَّد شمَّاعة؟ أَم أن الأمر يتعلق بكمين محكوم بدقة وقع فيه المُشتبه بأكله لطُعمه ؟ أم أن المُشتبه فيه، افتراضا، بريء و ضحية؟ أَم أن المسألة تندرج في اطار رد الصاع صاعين؟
و عليه فإنَ الإجابة على الفرضيات التي تمت صياغتها أعلاه، لفهم أكثر قُربا لحيثيات الطرد، تُقدم القراءة التالية فقط ترتيب الأمور بينما الحكم الأخير يعود في آخر المطاف لذكاء القراء. أما لتقريب الرؤية، فعديدة هي القراءات الممكنة لفهم أو محاولة فهم حيثيات قرار اسبانيا طرد مواطن مغربي من ترابها و اتهامه بالتخابر على اسبانيا و العمالة للمغرب.
فَعَمليا، لكل فرضية ما يُدعمها و ما يجعلها أقرب إلى الحقيقة، إلا أن الحقيقة، بمعناها المُطلق ليست هدف هذه القراءة، و إنما هدفها هو محاولة فهم النازلة في غياب المعلومات الكافية للفهم، لوضع الأمور في سياقاتها. فتقريب المسافة التي تفصل بين الحجة و الذريعة في طرد نور الدين زياني بناءَ على تقرير المُخابرات، نجد أن القرار جاء مبنيا أساسا على أنه مواطن من المغرب، بما للمغرب في الأجهزة الاستخباراتية الاسبانية من أحكام و نوايا، كالعدو اللدود و الجار المُقلق و الخطر القادم من الجنوب، بحسب التوصيفات و النعوت المُستعملة عادة في الأوساط الاعلامية الاسبانية.
ثانيا، قرار الطرد، جاء أساسا بالنظر إلى أن نور الدين زياني يُعتبر ناشطا مدنيا نشيطا في مؤسسة "نحن الكتلان" الكتلانية، بما لكاتالونيا و الكتلان عموما من حساسية جِد حساسة لدى السلطة المركزية في مدريد، كالانتماء إلى القوميات ذات النزعات الانفصالية. هذا بالإضافة إلى تعاطفه مع حزب الوفاق والتجمع الكتالاني ذو الأهداف الانفصالية عن اسبانيا، سيَّما و أنًّ الحزب يعتبر جهة كتالونيا و مجتمع الكتلان أمة مستقلة عن الاسبان و يُدافع عن استقلالها و تمتيعها بسيادتها على نفسها، اقتناعا منه بأن منطلق المناداة باستقلالية الاقليم ليست عرقية، و إنما يعود إلى هويته القومية.
فبِناء على ما ورد أعلاه، فهل يتعلق الأمر بحجة أو ذريعة؟ إلا أن الاستفهام الكبير في النازلة يكاد يكون مُتعلق بعلاقة التُهَم المنسوبة للمُتهم بالمبررات التي قدمتها التقارير الاستخباراتية الاسبانية. بعبارة أكثر دقة، هل يُعتبر في اسبانيا "الديموقراطية" الانتماء إلى أحزاب سياسية، جهوية و قومية، مُنشأة باسم القانون و بترخيص من الدولة المركزية، تهديدا للأمن القومي للدولة الاسبانية؟ و هل الانخراط في المُجتمع المدني على غرار الأحزاب السياسية، يُعتبر مساسا و زعزعة لاستقرار الدولة الاسبانية؟
أَكثَر من هذا و ذاك، هل تُهمة تنظيم مسيرات مُؤيدة لمغربية الصحراء من طرف مواطن مغربي مُقيم في بلد "ديموقراطي" بطريقة قانونية، مُثيرة فعلا؟ و ماذا عن الأطراف التي تقوم بتنظيم تظاهرات و مسيرات في شوارع اسبانيا مُشجعة على الانفصال عن المغرب؟ أليست هذه انتقائية بعينها؟ أليست هذه الانتقائية سياسة الكيل بمكيالين؟ أليست قضية الصحراء في اسبانيا، مساسا بالأمن القومي الاسباني فقط كلَما تعلق الأمر بأنشطة مغربية تكون من ترخيص و موافقة السلطات الاسبانية نفسها؟
بالجهة المُقابلة، أليست المسألة فتحا مُبينا بالنسبة للدولة الاسبانية و فخرا لأجهزة مكافحة تجسسها، سيَّما و أنَها وضعت يدها على "مدسوس" بين ثناياها يتخابر عليها و يُنفد أجندة دولة أجنبية في اسبانيا، بحسب تقاريرها. خاصة و أن الاستخبارات الاسبانية تقول في تقاريرها المُسربة بأن نور الدين زياني يتعاون مع أجهزة استخباراتية أجنبية منذ سنة 2000، مدعومة بصور للمشتبه فيه، مأخوذة له خلسة مع رموز السلفية في اسبانيا. إذا كان يعني هذا شيئا ما، فيعني أنها كانت ترصده مُنذ أن وضع قدماه في اسبانيا و بالتالي فهي تتوفر على دلائل اتهامه، إلا أن التساؤل المطروح لماذا لم تقم بمُحاكمته وفق القوانين المعمول بها في هذه الحالات في اسبانيا، حتى يتسنى للقضاء تقدير الحكم اللائق بالمُتهم، عوض ترحيله بقرار؟
فَخِلافا لفرضية الفتح المبين، أليس طرد نور الدين زياني فشلا ذريعا بالنسبة للدولة الاسبانية، سيَّما إذا استحضرنا تُهمة الترويج للسلفية و الراديكالية الاسلامية التي نُسبت للمُتهم؟ فهذه الفرضية وارة للغاية، خاصة و أن لها ما يُزكيها. فإذا اعتمدت اسبانيا، افتراضا، سبب أو ذريعة طرد نور الدين زياني من اسبانيا و ترحيله إلى المغرب، نظرا للقاءاته بعناصر سلفية و متطرفة في اسبانيا، فالسؤال المطروح لماذا طرد نور الدين زياني و غض الطرف عن هذه العناصر السلفية المتطرفة التي تُعتبر التهديد الحقيقي لإسبانيا وفق تقييمات و تقديرات تقاريرها الاستخباراتية؟
علاوة على ما ورد أعلاه، كيف يُمكن فهم تساهل الدولة الاسبانية مع هاته السلفية، الراديكالية و المُتطرفة، بحسب توصيفاتها، مع العلم أنها بمثابة التهديد الحقيقي الذي يُهدد اسبانيا، مُقابل التشدد في طرد نور الدين زياني؟ أليس من الغرابة عدم الاكتراث بالمساجد التي تروج للإسلام السلفي الراديكالي و المتطرف، حسب التقارير الاستخباراتية الاسبانية بعينها و الاهتمام حتى الهوس بطرد نور الدين زياني بالسرعة التي تم بها الطرد؟ و ما رأي الهيئات الحقوقية الاسبانية من قرار الطرد بتزكية مخابراتية، بصرف النظر إن كان الطرد، مشروعا أو تعسفيا؟ و بالتالي أليس طرد نور الدين زياني مِشجبا و شمَّاعة لتعليق فشل الاستخبارات الاسبانية في سياستها الساعية لتجفيف منابع التطرف و السلفية في اسبانيا؟
بخصوص فرضية العملية الثأرية، فبدورها واردة. هذا، إذا استحضرنا حساسية الأجهزة المخابراتية المغربية و الاسبانية من بعضها. لذلك، امكانية اعتبار الطرد بالعملية الانتقامية، قائمة في اطار تصفية حسابات مخابراتية مغربية-اسبانية، خاصة إذا استحضرنا اقدام أجهزة مكافحة التجسس المغربية الكشف عن كبير من العملاء الإسبان و طلب ترحيلهم من المملكة سنة 2009، نظرا لتجاوزهم بكثير الأعراف المتعارف عليها في الترخيص لضباط المخابرات و قيامهم بأنشطة مشبوهة، سيَّما و أن إسبانيا انزعجت بسبب التقارير الصحافية التي صدرت في الصحافة المغربية وفضحت محاولات المخابرات الإسبانية اختراق المغرب عبر شبكة جهنمية مُحكمة. لهذا، يُمكن اعتبار طرد نور الدين زياني فرصة ثمينة لتلميع صورة الاستخبارات الاسبانية لدى الرأي العام الاسباني خاصة بعد تدهور صورتها بشكل كبير، بهدف اعطاء الانطباع على أنها تشن حربا ضروس على التهديدات التي تنوي المساس بإسبانيا.
إلا أن الجهة الاسبانية المُسربة لخبر الطرد، قدمت توليفة تُفيد بأنًّ تقرب نور الدين زياني من المساعي الانفصالية الكتلانية الذي لا تنظر إليه الرباط بعين الرضا بالنظر إلى امكانية انعكاسها على قضية الصحراء، جعل الرباط تُقدم على التضحية به، مُستدلا على زعمه بأن الصحافة المغربية التي انتقدت الاستخبارات الاسبانية مرارا و تكرار، ظلت صامتة أو اكتفت في أحسن الأحوال برواية الوقائع بحياد تام، مُعتمدا على واقعة تُفيد بأنَّ القطيعة مع نور الدين زياني بالتمثيلية المغربية في برشلونة تعود إلى ديسمبر 2012 خلال لقاء ترأسه في برشلونة عبد اللطيف معزوز، الوزير المنتدب في الهجرة، بتراشقه مع القنصل المغربي على الهواء.
الأكيد في هذه النازلة التي تَتَشَابَكُ فيها العديد من الخيوط و تفتقر إلى الكثير من الحيثيات، تختلط فيها بشكل مُثير للغاية الاعتبارات المخابراتية بالحسابات السياسية، إلا أنها في ظل التعتيم الذي شاب تفاصيلها التشويقية، محاكمة نوايا أكثر منها بمُحاكمة أفعال جنائية كانت أم إجرامية. في آخر المطاف، أليست بين تُهم "تَهديد الأمن القومي.. و المساس بعلاقات اسبانيا مع دول أخرى.. و التعاون مُنذ سنة 2000 مع استخبارات أجنبية" و الانتماء إلى حزب سياسي قانوني و الانخراط في جمعية قانونية و مُصرح بها، مسافة كبيرة، تكبر يوما بعد يوم، بكبر التساؤلات و الاستفهامات؟
فانطلاقا من هذه الواقعة، يتبين جليا، حجم هوس اسبانيا بالمغرب و حساسياتها له. فهذه الحساسية عجلت في الأسابيع الماضية، بإنشاء وكالة استخباراتية مُتخصصة في القضايا الاقتصادية، سيكون من مهامها بالتأكيد رصد و تتبع المغرب اقتصاديا و تجاريا، بهدف التجسس عليه و الانقضاض على الرساميل التي تنوي الاستثمار في المغرب و استراق مناقصاته و صفقات بنياته التحتية، سيَّما و أن اسبانيا، الغارقة حتى الأذنين في أزمة اقتصادية خانقة، تنظر بريبة و حذر إلى المشاريع التنموية المُشيدة في المناطق الشمالية المغربية المطلة على السواحل الجنوبية الاسبانية.
المُؤكد هو أن هناك تساؤلات كثيرة و حلقات عَديدة مفقُودة و مناطق ظل كثيرة. أما الاستفهامات الكبيرة، المطروحة على المغرب و اسبانيا، على السواء، تبقى نفسها. ألم يحن الوقت لكي تنضج العلاقات المغربية الاسبانية بما فيه الكفاية، للالتفاف على التوترات و استباق التشنجات و الاحتكام الى الحوار و القنوات الديبلوماسية المعمول بها في الدول المسؤولة و الناضجة بدل الحسم على طاولة المخابرات، لحلحلة جميع المشكلات العالقة و تسوية الملفات الشائكة، غير أن الاستفهام الكبير هو من وراء طرد نور الدين زياني من اسبانيا؟ مدير مركز المخابرات الاسبانية أم رئيسته، الحاكمة و الآمرة الناهية الفعلية للدولة الاسبانية، بحسب تعابير مُنتقديها. الأكيد هو أن طرد نور الدين زياني من اسبانيا له ما قبله و سيكون له بالتأكيد ما بعده.