في هذا التحول الشامل، المتقدم تارة، والمتجه وراء تارة أخرى، يعيش الشعب المغربي، ومعه جزء من الطبقة السياسية والثقافية الاجتماعية والمدنية، أسئلة بعضها يمتح جوهره من الأزمة، وبعضها يتجه نحو الانفراج وتعقب الأجوبة التي تصالح المجتمع مع مستقبله. مستقبل لا يأتي مكتملا كطبيعة ميتة في لوحة معلقة في الهواء، بل هو مستقبل يتأسس، يبني أفقه الواسع من عناصر الواقع الراهن التي نضجت أو أثبتت جدارة في الزمن وفي البقاء. وذلك المستقبل لا يمكنه، بأية حال أن يرتهن إلى الأعطاب الحالية ويرتهن للقدرية التي تجعل الأزمة هي المسار الشبه طبيعي للأحزاب التقدمية واليسار وبناء المواطن الديموقراطي.. واحتمال الانقراض هو مجال الحرية الوحيد ; وتجعل من الجنازة الشكل الوحيد للاحتفال ! ومن هذا المنطلق، لا يمكن للمستقبل إلا أن يكون نهاية اعوجاجات واختلالات عطلت الراهن وأوقفت العجلة إلى حين انفجرت المرحلة برمتها وأصابتنا الشظايا في مقتل.
مؤتمر الاتحاد الاشتراكي لا يمكنه إلا أن ينتمي إلى هذا المشروع المنفتح على البديل العملي، البديل الذي لا يستكين للغيب النضالي الذي ينتظر عودة الجماهير عن «غيها» إلى صف التاريخ الطويل من المرارة والجراح، والاعتراف بأخطائها إزاء المناضلين، ولا يرتهن إلى النزعة التبشيرية، أو يرتمي في نهر الضحالة المتسع في زمن سياسي يبحث عن أبجديات جديدة لكي يتحدث إلى الأجيال الغاضبة، والبديل الذي لا يعيد صياغة الحاضر والمستقبل بأسمنت الماضي وحديد الماضوية، الذي لا يهرب، مثل مريض نفسي من كل الأشباح التي تقلقه أو الأسئلة التي تقض مضجعه. المستقبل هو أيضا بناء الثقة في الذات وطرح الأسئلة الجارحة والإقرار بوجود العطب.
في هذا التحول الكبير، الانفجاري الشامل، علينا أن نختار بين مشروعين، إما أن نقيم في حقل من حقول الربيع الديمقراطي، ونعلن أن القادم ينتمي إلينا أو نقبع في مقبرة ما من الماضي، ننتظر الموتى أن يموتوا قليلا لكي نهرع إلى بيانات تشبه نفسها، ونترك الواقع وحيدا في يد الغيب والمحافظة.. نشترك اليوم في الإقرار بوجود شيء ما ليس على ما يرام، نسميه الأزمة أو نسميه الانغلاق أو نسميه التوتر في ما بيننا وبين المجتمع أو نسميه انفصال الذات عن صفاتها وعن مفردات الصراع، لكن الحقيقة الساطعة هي أننا نحتاج، من جهة إلى المصالحة مع المجتمع، ومن جهة ثانية إلى الصراع مع الواقع ومع بعض مظاهره التي تعطل الحرية أو تشوش على المشاريع أو تلبس الوهم بالحقيقة والعكس أيضا صحيح.
نحن بحاجة إلى أن ننتمي مجددا إلى تجربة جديدة في الصراع وفي الوئام، في العقلانية وفي الاندفاعة، في التجريب وفي التحليل، في الموضوعية وفي الذاتية، تجربة جديدة تشعل ذاتها بحطب التاريخ العتيق، وتصيغ من جديد العلاقة بين القطيعة والتراكم، بين قيم عالية غير متعالية وسلوكات متواضعة غير وضيعة ..
لا نريد للتجربة أن تربت على كتف الخوف وتعتبره الصديق الدائم للقرار السياسي والموقف من الفاعلين في حقلنا الوطني.. لا تجربة أيضا تستدرج مناضليها إلى التطبيع مع التاكتيك الصديق للسياسة، كما يؤسسها الآخرون، وترفعه الى درجة الاستراتيجية.
لقد عشنا عقدا من المفارقات، جعلت حزبنا يجتهد ويدفع الثمن من أجل الإفراج عن طاقات المجتمع وتحرك مياه السياسة الآسنة، لكنه يخرج من المعادلة بشلل طويل النفس حول الخوف الذي عنيناه أعلاه إلى ...ديالكتيك نفسر به الكثير من الهشاشات والمواضعات والكثير من مظاهر التحلل السياسي والقيمي في أوساطنا.. ومن حولنا.
إن الثورة أحيانا هي القدرة على إثبات عجزنا على الامتثال لراهن يسير نحو الانحطاط، وقدرتنا على العجز عن .. الانهيار! إن الحركات السياسية، التي تجعل من مشاكله الخاصة الأولويات للشعوب تحكم على نفسها بالزوال، أو بالحجز الطبي في مصحة ضيقة ومرتفعة الجدران، ولا يمكنها أن تستعيد وجودها وهويتها المادية والرمزية إلا إذا جعلت من مشاكل المجتمع أولوية لها.
وقد أجازف بالظن أن القوى السياسية للمجتمع لا تختار سوى ما يمليه عليها قانون الحاجة، قانون الضرورة الذي يجعل الحركات تعيش تبعا للدورة القوية للحركية في المجتمع ذاته.
نحن لا نحارب الموت، لكي نستيعد الحياة، عندما نحاول تجربة الموت، لا نفشل عادة، بل نحقق النهاية بوعي قلق، أو بوهم أننا قد ننجو فعلا من الانتحار. محاولة الموت هو الشروع في الانتحار.
وهو لا يمكن أن يكون بديلا أبدا...
إن العثور على أجوبة في أفق متموج، وحالك، أحيانا، وفي ظروف جديدة على الدولة وعلى المجتمع وعلى الأحزاب، يتطلب منا أن نبحث عن المسالك الجاهزة التي أثبتت، بالفعل، قصورها.