أتخيل شخصا دخل إلى قاعة سينما ليشاهد فيلما، ولم يمض وقت، حتى خرج متعثرا بين الأرجل في الصالة المظلمة وهو يصرخ: يا إلهي هناك نهد في الشاشة الكبيرة، النجدة، النجدة، هناك امرأة عارية. هذا بالضبط ما قاله الصحفي للمخرج لحسن زينون بخصوص رد فعل الجمهور على فيلم"موشومة"، لقد أخبره أن المغاربة غاضبون في الفيسبوك، وأنه هو أيضا غاضب، لما رأى نهد الممثلة، وأخبره كذلك أنه لم يشاهد الفيلم ويرفض أن يشاهده، تماما مثل الجمهور الغاضب، لكنهم جميعا شاهدوا النهد، ويحتجون وينددون وربما يتلمظون.
لقد تلصص هذا الصحفي وهذا النوع من الجمهور على لقطة مجتزأة من الفيلم ليهربوا منه وليخافوا من جسد الممثلة فاطيم العياشي العاري، وبعد أن ابتعدوا من النهد ونجوا من إغوائه أخذوا يضربونه بالحجارة.
لكني لا أصدق أن شخصا كيفما كان يمكن أن يزعجه جسد ممثلة، بل بالعكس، لا يمكن لذلك إلا أن يمتعه ويمنحه جرعة خيال ورغبة، ولهذا السبب بالضبط يذهب الناس إلى السينما، كي يتمتعوا ويعيشوا زمنها المصنوع من اللذة ومن إثارة الحواس ومن الإسراف في الجمال، وليغرقوا في عوالم موازية للواقع، وليعتقدوا أنهم في الواقع، الذي ليس إلا خيالا.
أما أن يهرب شخص من نهد فهذا أمر لا يصدق. من هو هذا الأحمق الذي بإمكانه أن يتخلى عن هذه اللقيا، إلا إذا كان يعاني من مشكل، وقد أفهم أن الجمهور لم تعجبه الطريقة التي صور بها المخرج جسد الممثلة أو لم يعجبه جسدها عاريا، أما أن يخاف من عريها لمجرد أنه عري، فهذا في رأيي أمر فيه ادعاء وفيه كذب.
منذ أن ظهرت السينما وهي تصنف باعتبارها فنا وليست درسا في مكارم الأخلاق، شغلها هو أن تجعل المشاهد يحلم، وأن يحلم شخص بالجسد وبعريه، فهذا ما يتمناه الناس جميعا، ولا أحد نتصور أنه مستعد لأن يهرب من هذا الحلم، إلا من يجهد نفسه ويمنعها من القيام بذلك.
السينما تتوفر أكثر من الفنون الأخرى على تلك القدرة في جعلك تبكي وتضحك وتتألم وتشعر بالحر في عز البرد وبالبرد في عز الحر وتنتعظ وتغار وتحلم وتتمنى وتخاف وتشمئز وتتضامن وتحلق بعيدا وترى كائنات فضائية وجنا وحوريات وكائنات شريرة ومصاصي دماء، وحينما تفكر في الذهاب لمشاهدة فيلم، فإنك تعرف أنك ذاهب للوقوع في إغراء هذه المشاعر المتناقضة، التي مهما اختلفت، فهي تصب كلها في خانة المتعة واللذة، ولن تفاجئك جريمة قتل بشعة ولا لقطة بين رجل وامرأة يمارسان فعل الحب، إلا لأنك تريد أن يفاجئك ذلك ويثيرك ومستعد لأن تتماهى مع الفيلم الذي أخذت تذكرة ودفعت مقابلا، كي يمنحك هذا الشعور، الذي أنت في حاجة إليه.
لنتخيل مرة أخرى جمهورا يهرب من الجمال، ولنتخيل سينما خالية من الأجساد، وخالية من الحياة، ولنتخيل متفرجا لا يريد إلا القبح ويمدحه ويعلي من قيمته ويغطي كل ما هو جميل، إنه أمر غير ممكن في الأدب والفن وفي الواقع، بل حتى النصوص المقدسة لم تستطع ذلك، ولم تنج من إغراء المتعة وحكيها للمؤمنين، لأن الجسد موجود ولا يمكن طمسه، ومن لم يقرأ سفر نشيد الأنشاد في العهد القديم، فهذه مناسبة ليطلع عليه، ومن لم يقرأ سورة يوسف فليفعل، ولن يجرؤ أحد على القول إن هذه السورة لا يجب قراءتها، وأنها تتضمن مشاهد إباحية، وأقصى ما يمكنه أن يقوله إنها تحمل رسالة.
لا أظن أن الذين هربوا من النهد في الفيلم وخافوا من جسد الممثلة لم يحلموا يوما، ولا أظن أنهم يستيقظون وهم في عز النوم ليمنعوا الحلم وليحولوا دون أن تصيبهم لذته، والذين يدعون ذلك فهم ليسوا بشرا مثلنا، ولا يرون الضوء في حلكة الليل، وهو نفس الضوء الذي نراه نحن، في قاعة السينما المظلمة، ونتلقاه مثل حلم، يمنحناه إياه هؤلاء العباقرة الذين اخترعوا الفن السابع، ووصنعوا لنا أحلاما إضافية تزيد من شبق وإثارة أحلام النوم الطبيعية وتمددها وتجعلها تعمل في اليقظة ونحن نحملق في الشاشة.
يفهم من الذين قالوا إنهم فروا بمجرد رؤيتهم لجسد فاطيم العياشي، وللإشارة فلا أحد منهم خاف من جسد الممثل ولا احتج على عريه، وصعدوا إلى جبل الفيسبوك، أنهم يعتبرون النهد شريرا وأنه سيطاردهم، وأنه سيتبعهم وسيغويهم وسيدفعهم دفعا إلى المعصية، ولذلك تحدث عنه الذين لم يروه أيضا وشتموا الفيلم وحذروا منه وخافوا من مغبة أن تصيبهم لعنة إغوائه وأن تؤذي فتنته جمهور المتفرجين.
هل هذا ممكن فعلا؟ أن يخاف المغاربة إلى هذا الحد من الجمال الذي تمنحه السينما، وهل نصدق أن فاطيم العياشي خطيرة وأن جسدها يرعب وهي تمثل؟ وهل يعني هذا أنه علينا أن نتخلى عن أجسادنا ونعتبرها غير موجودة ونصنع سينما مغربية من كائنات نورانية لا أجساد لها، كي لا يخاف الجمهور العزيز، وهل أحد دفع ذلك الجمهور المفزوع ليشاهد ما لا يريد مشاهدته، وهل المغاربة يحتاجون إلى أن يكون بعضنا وصيا عليهم، ويتدخل في رغباتهم وأهوائهم.
عادة، وعندما يغريك جسد جميل في مكان مظلم، فإنك لا تمنع نفسك من التملي فيه وتعتقد أنك وحدك تراه، وإذا ظهر لك نهد، ولو من تقويرة فستان فأنت تتلصص عليه، وإذا لمسته، فإنك ستشعر باللذة، كذلك هي السينما، إنها تمنحك هذا الوهم الجميل، إنها تلعب بمشاعرك وتثيرها، وعليك أن تقتنص متعتها وجمالها، ولا تهرب منها، بل خذها بالكامل، لتعود بعد ذلك إلى الحياة شبعانا من تجلياتها في الفن، والذي يرفض ذلك يرفض اللذة والمتعة والخيال، وهي أشياء نحتاج إليها كي نعيش، وقد عاشها الإنسان، وعاشها أجدادنا مع الشعر ومع ألف ليلة وليلة ومع الحكايات ومع سمر الليل ومع الملحون والعيطة، والثقافة التي أنتجت كل هذه المتع وكل هذه الإيروتيكا، لا يمكنها أبدا أن تخاف من جسد ممثلة عاريا، ولا يمكن لورثتها أن يهربوا من السينما، وأن يخافوا منها، إلا كان الأمر يتعلق بتحريض من هؤلاء الدخلاء، الذين يعتقدون أن المغرب يمكن أن يتحول إلى صحراء قاحلة لا حياة فيها، وهذا غير ممكن أبدا.