يعد صيف 1999 محطة فاصلة في تاريخ المغرب الراهن، إذ عقب وفاة المرحوم الحسن الثاني وتولي الملك محمد السادس الحكم دخل المغرب في دينامية غير مألوفة تجلت في فتح أربعة أوراش كبرى وهي: الورش الحقوقي والورش الاجتماعي والورش الاقتصادي والورش الترابي. الورش الحقوقي انصب على تصفية إرث سنوات الرصاص وما تلاها من تأسيس هيأة الانصاف وتعويض حوالي 18 ألف ضحية من ضحايا الاختفاء القسري والتعذيب في المعتقلات السرية والسجون ماديا وإدماج 13500 ضحية وذوي الحقوق في التغطية الصحية وإدماج 13 ألف حالة في النسيج المجتمعي وإعادة الإدماج الإداري مع تسوية الوضعية لحوالي 800 ضحية. فضلا عن شطب المغرب على العديد من التحفظات التي كان يطرحها لملاءمة نصوصه الداخلية مع التشريعات الدولية، هذا دون الحديث عن تأهيل المنظومة القانونية في عدة مناحي. في انتظار تفعيل توصيات أخرى مازال الوسط الحقوقي يلح على إعمالها. أما الورش الاجتماعي فتجلى في قلب أولويات الدولة لدرجة أن الشأن الاجتماعي أصبح في جدول الأجندة العمومية وما تلاه من إعادة تصويب السياسة العمومية في التأهيل الحضري ومحاربة دور الصفيح والهشاشة والمعوقين والسجناء، خاصة النساء والأحداث منهم. هذا الانقلاب في ترتيب الأولويات انعكس في العشرية الأخيرة على الفضاء العام (الوسط الحضري خاصة) وهو ما يلمسه المرء اللبيب في كل مركز حضري وفي كل مدينة (ساحات،كورنيش، ملاعب، الربط بالماء وشبكة التطهير، سد الخصاص في مرافق القرب، الاعتناء بالأنسجة العتيقة إلخ...) أما الورش الاقتصادي فتبرز معالمه في المخططات القطاعية المعتمدة لدفع المغرب لانتزاع حصة من المهن الدولية (الأوفشورينغ، الطيران إلخ...) أولإعادة تكييف la reconversion المغرب مع المتغيرات الجديدة بادماج وظائف خدماتية ( القطب المالي بالبيضاء كنموذج، المرتقب أن يوظف 35 ألف إطار في المهن المالية الدولية) ) la haute finance هذا دون التطرق إلى ما عرفه المغرب من مخططات قطاعية (المخطط الأزرق والأخضر والصناعة التقليدية والسياحة) رغم ما يمكن أن يسجله المتتبع من نواقص وأعطاب (وهذه مسألة مفهومة) في هذا المشروع أو ذاك. لكن دون أن ترقى (أي الانتقادات) إلى تسفيه الفكرة. أما المخطط الترابي، وهو الأهم في نظري، فقيمته تكمن بالأساس في توظيف التراب الوطني بما يخدم المصالح الجيوستراتيجية للمغرب. وأهم تجلياتها هي ربط تنمية الأقطاب الحضرية الكبرى-لأول مرة- ووضعها في سياق معادلة العداوة التاريخية لبلادنا مع الجزائر واسبانيا، وهو ما يفسر كيف أن المغاربة تحملوا عبء دفع 250 مليار درهم في السنوات العشر الماضية في الشمال ليس لرد الاعتبار للشماليين الذين كانوا مهمشين في العهد الماضي فحسب، بل لتجفيف منابع الاستعمار الاسباني عبر تطويق سبتة ومليلية المحتلتين. وهو التطويق الذي أفلح فيه المغرب في جزء كبير بعد التهيئة والاهتمام والاستثمار العمومي الذي تم ضخه في الشريط الساحلي الشمالي، وإعادة التقطيع الترابي باحداث عمالة المضيق والدريوش حتى تتفرغ السلطات المحاذية للمدينتين المحتلتين لمواكبة هذا التحول. وتجلى أيضا في المجهود المالي الذي تحمله المغاربة في ظرف 7 سنوات لضخ 7 مليار درهم في مدن الصحراء لتجفيف منابع الجفاء والتواصل مع الجزائر والبوليزاريو مع أنصارهما هنا في الداخل. ولن يستقيم فهم هذا التحول الجيوستراتيجي في مفهوم التنمية الترابية دون ذكر الذكاء العمومي في تعامله مع الجهة الشرقية كي لا تبقى هذه الجهة مرهونة بالجزائر وبالحدود، وذلك بإعادة مصالحة مع باقي التراب الوطني (أوطوروت فاس، الطرق السريعة مع بركان والسعيدية والناضور، الناضور ميد، مارتشيكا، قطار تاوريرت، المحطة الشمسية، ضخ 300 مليار لتأهيل مدن المنطقة....). وهذه الرؤية لم تكن عبثية بقدر ما كانت مسنودة بتأطير خلاصات النقاش حول إعداد التراب الوطني الذي (أي النقاش أثمر دستورا ترابيا) زكاه الملك في اجتماع 2004 وعكسه الاهتمام بأهم الأقطاب (فاسمكناس وطنجة تطوان ومراكش أسفي والجديدةالقنيطرة عبر البيضاء والعيون أكادير ثم ورزازات الراشيدية) لكن- وهنا لابد من أن نسطر على كلمة لكن- لا يعقل أن نضع كل هذه المجهودات بيد حكومة مجنونة تنذر الأشهر الأولى من تجربة رئيسها عبد الإلاه بنكيران أن ما بناه المغاربة طوال 13 سنة مهدد بأن يتم نسفه من طرف حكومة مهزوزة ولا مشروعية مجتمعية لها (صوت عليها فقط 7 في المائة من المغاربة) وهو ما يقود في ظني إلى وجوب المطالبة بفتح ورشين ملكيين جديدين لإعطاء دينامية أخرى ونفس جديد للمغرب وللمغاربة. الورش الأول المفروض فتحه هو ورش «الصحة العقلية» أي الحجر على وزراء الحكومة الملتحية الذين يستبلدون الشعب ويحتقرون نضج المجتمع. بدءا من رئيس الحكومة وانتهاء بأبسط وزير في أصغر حزب مشارك في الائتلاف الحكومي. إذ في الصباح يصرح وزير بكلام وفي الليل يتراجع عنه أو يدعي أن الصحافة «المغربية والأجنبية يا سلام» تتواطأ لتحريف المضمون وهو ما لم نألفه حتى في حكومات السند وطشقند وسمرقند، هذا دون إغفال طبيعة الإجراءات المتخذة من طرف الحكومة الملتحية وهي إجراءات تصب في خانة تأجيج الأوضاع وإحراق السفينة بمن فيها لدرجة أنها تعطي الانطباع أن ! الحكومة تعمل لخدمة أجندة «انتحارية» لتفجير الوضع الداخلي أما الورش الثاني فهو ورش تكسير عقدة «تورابورا» (نسبة إلى الجبال والطرق الوعرة بأفغانستان) التي فرخت هذا الجنون، وأقصد الورش المهيكل لكامل الحوض الأمازيغي والصحراوي، عبر البدء في إنجاز الطريق السريع (أو الأوطوروت إن أمكن) الرابط بين الحسيمة وأسا مرورا بفاس وخنيفرة وبني ملال ومراكش وورازازات وزاكورة. وذلك لتحقيق 3 غايات: الأولى تحريك عجلة الاقتصاد الذي خنقته حكومة الهواة التي يقودها بنكيران، الغاية الثانية هي تكسير حاجز الريف وحاجز سلسلة الأطلس للسماح للمغاربة من كل الإثنيات بالتواصل مع بعضهم البعض، وثالثا لتجفيف المنابع التي ترتوي منها التيارات المتطرفة. الورش الأول فتحه المجلس الوطني لحقوق الإنسان حينما عرى عن واقع الصحة العقلية ببلادنا (انظر ص: 14)، وهي فرصة ذهبية يتعين استثمارها بادراج الحكومة الملتحية ضمن المشمولين بوجوب التكفل الصحي! آما الورش الثاني فتم البدء فيه في أواسط عام 2011 حينما أعطيت الانطلاقة لإنجاز الطريق السريع المزدوج بين الحسيمة وتازة وهو المشروع الذي لا يحتاج إلا إلى شحنة إضافية لإتمام المونطاج المالي والبحث عن الممولين (داخليا وخارجيا) لقطع الطريق عن رغبة حكومة بنكيران في تحويل المغرب إلى مجرد إقليم تابع لإمارات الشرق الخليجي. فباستثناء الوحي الإلهي لم تأت للمغرب من الشرق سوى السموم والشرور. افتتاحية العدد 486 الخميس 20 شتنبر 2012 تنشرها "كود" باتفاق مع الناشر