لقد جاء نيتشه بفكرة قلبت موازين الفلسفة، عندما تحدث عما أسماه "العود الأبدي" الذي وقف في وجه فكرة أخرى مفادها أن التاريخ يسير على شكل خط طويل ممتد إلى الأبد، في حين أن العبقري الألماني أكد أن الزمن يتوقف في لحظة ما ليعيد الأحداث نفسها بالمضامين والمعطيات نفسها، أي أن الزمان يعود بشكل مستمر إلى نقطة بدايته، فجعل المفكر الألماني الكبير من هذه الفكرة الأساس الجوهري الذي تقوم عليه فلسفته. وما يحدث اليوم في سوريا شبيه بما حدث في تونس ومصر وليبيا مع وجود فوارق صغيرة: البيانات والتصريحات والتصريحات المضادة نفسها، التهديدات بقمع انتفاضة الشارع من طرف النظام وتحدي "الثورة الباسلة" رافعة "الله أكبر" في وجه الطاغية، كأننا نعيش السيناريو نفسه... وبين هذا وذاك، المواقف الدولية ذاتها بين مدافع مستميت عن الأسد أو القدافي أو أي كان... وعواصم أخرى تهدد بقرارات شجاعة لمجلس الأمن يمكن أن تصل إلى التدخل العسكري... وكأننا نعيش حلقات صغيرة من "العود الأبدي" الذي تحدث عنه نيتشه فلسفيا، وترجمته جريدة "ليبيرسيون" الفرنسية صحافيا بالقول "A qui le tour ?" أي الدور على من؟ لقد شكل الحادث الذي شهدته العاصمة السورية، دمشق، أول أمس (الأربعاء)، هزة أمنية عنيفة، استهدفت اجتماع خلية الأزمة المشكلة من قادة الأجهزة الأمنية وأبرز الوزراء السياديين، ما أسفر عن مقتل وزير الدفاع العماد داوود راجحة، ونائبه آصف شوكت، ومعاون نائب الرئيس بشار الأسد العماد حسن تركماني، حدا فاصلا في القضية السورية، وهي اللحظة التي يسميها نيتشه "السنة الكبرى للصيرورة" التي تنتهي عندها دورة لتبدأ دورة جديدة، حتى أن بعض القنوات التهييجية وعلى رأسها "الجزيرة" تتحدث من الآن عن ما بعد بشار، كما تحدثت من قبل عن ما بعد القذافي وما بعد بنعلي وغيرهما من الطغاة. وإذا كان بعض الفلاسفة انتقد فكرة نيتشه بالقول إن مفهوم العود الأبدي يقضي على الحرية، مادامت الحلقة محتوم عليها بالعودة باستمرار: الانعتاق من قبضة طغاة العسكر للوقوع في جحيم طغاة السلفية، فإن الفيلسوف الألماني الذي اشتكى معظم حياته من مرض نفسي، دافع عن فكرته بالحديث عن أن النفس فوق كل استعباد للزمان ما دام "الآن ليس هو اللحظة الهاربة، بل هو التصادم بين المستقبل والماضي" بين قمع العسكر وقمع السلفية. إن التاريخ يسير بوتيرة متسارعة جدا، ومهما كان التزامه بفكرة نيتشه و"عوده الأبدي"، أو بفكرة الفيلسوف الإغريقي، هيرقليطس، الذي قال "لا تستطيع أن تستحم بماء النهر ذاته مرتين" لأن التاريخ ممتد إلى ما لا نهاية، فإن الخوف كل الخوف من أن دائرة العود أو الامتداد تسقطنا في جحيم النكوص والتخلف الكبيرين أكثر مما نحن عليه الآن، فما حدث في بلد مثل مالي حيث التقتيل والتعذيب وقطع الرؤوس والأيدي ليس عودة إلى العصور الظلامية فحسب بل نهاية للتاريخ.