"يتفق كل المفكرين السياسيين، الواقعيين والمثاليين، على المعادلة التالية: الدولة الحق اجتماع وأخلاق، قوة وإقناع، يتفقون جميعا على القواعد التالية: - لا نظرية حقيقية بدون تفكير جدي في أخلاقية الدولة، - إذا لم تجسد الدولة الأخلاق بقيت ضعيفة، - إضفاء الأخلاق على دولة القهر والاستغلال غبن، - تحرير الدولة من ثقل الأخلاق حكم عليها بالانقراض ...تثبت النظرية أن الحرية خارج الدولة طوبى خادعة، وان الدولة بلا حرية ضعيفة متداعية." مقتطف من مغلف كتاب "مفهوم الدولة" للمفكر المغربي الأستاذ عبد الله العروي
مقدمات لا بد منها: 1. أثارت مقولة "الانتقال الديمقراطي" على امتداد عقدين من الزمن، الكثير من الإشكالات النظرية المتصلة بعمق ومضمون وأبعاد العملية الديمقراطية بالمغرب. ولعل ابرز هذه الإشكالات تتمثل في وجود تباين بين ما تمت مراكمته من منجزات اقتصادية، اجتماعية، سياسية، وثقافية من جهة، وما أفرزته هذه المتغيرات من أسئلة مقلقة في شان الاختلالات المؤسساتية، ضعف التدبير والحكامة، ضمور الفاعل السياسي التقليدي"الحزب" وعودة الايدولوجيات المذهبية بقوة إلى الواجهة، كرهان سياسي مؤطر للمرحلة. 2. في خضم الحركية المجتمعية التي عاشها ولازال يشهدها المغرب منذ سنوات على مستوى تنامي القوى الجديدة في الحراك الاجتماعي، والنضال الحقوقي والمدني كمحددات بارزة لدينامية الصراع السياسي على السلطة، الشيء الذي افرز نوعا جديدا من الاستقطاب الإيديولوجي بين ثلاث فرق مذهبية، متباينة الأهداف والمنطلقات و" تبدو متوافقة" حول ثوابت الدولة والمجتمع. ويمكن تقديم هذه الفرق الثلاثة على الشكل التالي:
- فريق يضم مكونات الحركة الوطنية الديمقراطية التاريخية بكل ألوانها اليسارية التقدمية، والوطنية الديمقراطية، واليمينية الوسطية، - وفريق ثان يتكون من فئات وعائلات وتيارات سياسية تتموج في ثناياها اختيارات ايدولوجية متباينة: منها السلفية، القبلية، الإقطاعية، الليبرالية المحافظة وبعض الشخصيات والمجموعات الضاغطة المحسوبة على السلطة والمستفيدة من دعمها الموصول،
- فريق ثالث يضم موجات مختلفة الحجم والتأثير والأجندات ضمن ما يمكن الاصطلاح عليه ب"ملحمة الإسلام السياسي" في حلتها المغربية. والمثير في هذا المشهد السياسي المغربي الطراز، أن تلك الفرق مجتمعة مع بعضها، لم تتمكن على امتداد عقود من النضال والفعل -أخذا بعين الاعتبار طبعا، التباين الموضوعي بين مكوناتها من حيث الجدية والالتزام والتضحيات التي قدمتها قوى الصف الديمقراطي التقدمي على وجه التحديد في سبيل دمقرطة الدولة والمجتمع- من إحداث تغيير عميق في موازين القوى لصالحها، وكذا استمالة أغلبية المواطنين المغاربة لمؤازرة أفكارها التنويرية، وكسب تعاطف واسع يدعم مشاريعها السياسية، وبالتالي، ضلت المبادرات السياسية الأساسية والفارقة في مسارات التطور السياسي بالمغرب بيد المؤسسة الملكية الفاعل الرئيسي والناظم لخيوط اللعبة السياسية في مجملها، والمؤثر في تفاصيل الاختيارات الإستراتيجية وفي أداء المؤسسات.
تأسيسا على ما سبق، وبالنظر إلى ما تتيحه القراءة الميدانية "لممارسة السلطة" وتدبير الشأن العام في ارتباط منهجي بما تتيحه الوثيقة الدستورية الجديدة، يفسح المجال واسعا لتأمل اختلال التوازن المطلوب بين اللاعبين الأساسيين فوق الرقعة السياسية، بالرغم من الإقرار الجماعي لهؤلاء اللاعبين بكونهم يتحركون ويباشرون الإصلاح من منطلق الخيارات التوافقية، أو على الأصح، التوفيقية، بين الأطراف المتنافسة على السلطة.
فمن واقع التجربة الانتقالية التي باشرها المغرب منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، يمكن الحديث عن "عملية توليد" مضنية أنهكت العنفوان السياسي الحزبي واستهلكت نسبة كبيرة من رصيد الدعم الشعبي لمسلسل التوافقات حول البناء والتحول الديمقراطي ببلادنا، ناهيك عن كون الاختلالات المؤسساتية وبعض "المراجعات والتراجعات" الطارئة للتجربة نفسها، أفقدتها الكثير من مضامينها المجتمعية والتعبوية. ومع توالي حلقات هذا المسلسل الشاق، وبالرغم مما أتاحه من فرص وإمكانيات للتغيير الديمقراطي، لوحظ انسحاب المواطنين التدريجي من اللعبة السياسية برمتها، وهجرة الشباب على وجه الخصوص إلى فضاءات جديدة ومبتكرة للتواصل والتعبير عن أفكارهم وتطلعاتهم السياسية من خلال شبكة المواقع الاجتماعية الجديدة، تماشيا مع ما أتاحته الثورة الرقمية وتقنيات الإعلام والاتصال الحديثة من فضاءات رحبة للإبداع والتفكير الحر وتكسير الثوابت والمجسمات العتيقة للفاعل وللفعل السياسي على حد سواء.
واللافت للانتباه، أن هذا "الجيش الرقمي" الجديد قد اوجد لنفسه عالمه الخاص ولغته وقيمه ورهاناته الخاصة كذلك، وقد لعب الشباب في هذا الفضاء الجديد دور النواة الصلبة والمؤطرة للرقعة السياسية والإعلامية التي حفزت الفاعلين التقليديين على الالتفاف والتوافق حول ضرورة إحداث التغيير السياسي الذي ظل مستعصيا في العديد من البلدان العربية أساسا. وفي الحالة المغربية، نجد تجسيدا آخر "لمعزوفة التغيير" ضمن سمفونية الربيع الديمقراطي التي أبدعتها الشعوب المغاربية والعربية في أفق انجاز التحرر والكرامة والعدل والمساواة، وبذلك انهارت العديد من الثوابت والمسلمات القائلة بتفرد هذه الشعوب عن ما سواها في كونها راكدة هامدة وقانعة خاضعة لقدرها المحتوم. فبعد أن أمسكت شريحة واسعة من الشباب المغربي عن المشاركة في اللعبة السياسية بأشكالها التقليدية المعهودة، بل وفضل بعضهم مغادرة الحلبة السياسية والانتخابية فارغة وباهتة، ليركبوا زوارق الموت بحثا عن أفق أفضل للحلم والحياة، بعدما تبين لهم انسداد الأفق الاقتصادي الاجتماعي والسياسي بوطنهم الأم.
3. لقد احدث الحراك الاجتماعي بدول المغارب والعالم العربي موجات جارفة ومتلاحقة من الأحلام والتطلعات المشروعة لشعوب المنطقة بعد ما عانوه لعقود طويلة من أشكال القمع والتعسف والاستبداد من لدن حكامهم، كما أثارت في نفس الآن، تساؤلات عميقة حول السياقات المختلفة التي أنتجت هذه التحولات، وحول الانعكاسات الجيوسياسية التي افرزها هذا الحراك، بالتالي يبقى السؤال الإشكالي الكبير معلقا حول عمق وحمولة التغيير الديمقراطي الذي أفرزته "الثورات" المتواترة عبر جغرافية المجال العربي، وحول الفاعلين الحقيقيين والافتراضيين الذين يمسكون بزمام هذه "الثورات"، وفي الأخير حول الفئات المجتمعية المستفيدة من هذه المتغيرات. وتبعا لذلك، و انطلاقا من بسط مجمل الانعكاسات المفترضة لهذه التحولات الإقليمية المتسارعة، يسائلنا السياق المغربي بكل تناقضاته وسماته البارزة؟؟. 1. التحول الديمقراطي بالمغرب بين خطاب التوافق ومشروعية النضال
يبدوا أن النقاش الفكري والجدل السياسي حول مداخل التحول الديمقراطي، في أبعاده الاقتصادية وحمولته السياسية وتمثلانه المجتمعية وانبنائه الثقافي والقيمي، لازال يفرض ذاته في الساحة المغربية سواء من لدن "الفضاءات العالمة" أو الوسيطة والشعبية منها، بل ويسائل في العمق مجموعة من الفرضيات والمقولات السياسية السهلة، والتي باتت تشكل ما يشبه "الحقائق والمسلمات" لدى فئة معتبرة من الفاعلين السياسيين وبعض النخب الدائرة في فلكهم فكرا أو ممارسة. والظاهر كذلك أن معشر السياسيين أنفسهم، وفي مقدمتهم بعض الأصوات التي دبرت الشأن العام لعقود خلت، وظلت لعقود تبشر بمجتمع يرفل في نعم الديمقراطية، وينهل من "قيم الليبرالية" والرخاء الاقتصادي...إلى أن أوصلوا الدولة والمجتمع برمته إلى ذلك الوضع الذي اسماه الملك الراحل الحسن الثاني "بالسكتة القلبية"، أضحوا اليوم حائرين في أمرهم بين شعور غامر بالاطمئنان إلى المقاربة التوافقية "ذات المفعول السحري" في جلب المنافع "وحفظ النفوس"، وبلوغ النتائج بأقل تكلفة سياسية ممكنة من جهة ، وبين هواجس متواصلة حول شرعية تلك المكاسب في أعين المواطنين، وحول مشروعية الاختيارات السياسية والمقاربات المعتمدة من جهة ثانية. وتتضح هذه الحيرة السياسية بجلاء في أوساط "القبائل السياسية الداعية للبرالية" وبعض "أفخاد المحافظين" وأولائك المقربين والمستفيدين من دواليب السلطة والإدارة لسنوات طويلة، ولعل الإعلان عن نتائج تشريعيات 25 نونبر 2011 وما تلاها من تقلبات في ميكانيزمات المشهد السياسي عموما والمشهد الحزبي المغربي على وجه الخصوص، قد أضفى على هذا المشهد السياسي المذكور، مسحة خاصة من "الميلودراما" الإيديولوجية والتهافت المذهبي والحنق الفكري أحيانا لدى ثلة من الفرقاء والشركاء السياسيين على السواء، من وقع الشارع المغربي وحقيقة تمثلاته للشأن السياسي وتطلعاته الجديدة.
أما بخصوص ما خلفته نتائج التشريعيات الأخيرة في صفوف الكتلة الأخرى، فلا زال الجدال صاخبا بين مد وجزر، حول تقييم مرحلة ما قبل وما بعد الإصلاحات الدستورية الأخيرة، من حيث المستجدات التي ميزت التصريف الديمقراطي لإرادة الناخبين عبر تشكيل الأغلبية وما يواجهها من تحديات، حيث ارتفع مستوى السجال حول قضايا تتصل بالهوية السياسية والايدولوجية ومتطلبات التحالف والتقارب وتكتيكات التوافقات السياسية، إلى درجة أصبح معها الرجوع إلى الأصول والمنطلقات المنهجية للعبة السياسية برمتها مدخلا أساس لفهم التحول والتغيير الديمقراطي نفسه.
وبناء عليه، نجد أن المشهد السياسي الوطني برمته قد انتقل من منطق البحث عن شرعية الخطاب المحفز المعبئ لجماهير المواطنين بغية الانخراط في العمل السياسي، إلى البحث عن إعادة الروح وإضفاء المشروعية الايدولوجية للسياسة يسارها ويمينها، لتبرير الاختيارات والمواقف السياسية المتخذة في هذا الطرف أو ذاك، إننا حقا أمام واقع سياسي جديد وصاخب، ومحمل بكثير من الأسئلة والتناقضات والمفارقات.
بناء على ذلك، يظل السؤال المركزي مطروحا بقوة حول ما إذا كان الحراك الاجتماعي والسياسي المفضي للإصلاحات الدستورية والمؤسساتية التي شهدتها بلادنا، قد وفر كل المناخ الضروري والمطلوب لمباشرة الإصلاحات الهيكلية للدولة والاقتصاد والحقوق والحريات، وبالتالي هل افرز هذا المناخ السياسي الجديد تعاقدات مؤسسية صلبة ستمكن من إرساء الدولة الديمقراطية الحق؟
وإذا كان الجواب على هذه الفرضية بالإيجاب، فهل تستطيع الحكومة الحالية بقيادة حزب العدالة والتنمية، "توجيه دواليب الدولة" تجسيدا لمقتضيات الدستور، واستنادا إلى الإرادة العامة للمجتمع نحو مزيد من المكتسبات والانجازات على درب تحقيق الديمقراطية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية. لكن إذا ما اعتبرنا ما تم تسجيله لحد ألان من تخوفات وتوجسات وإسهامات حول عدد من القضايا المتصلة بالحريات والهوية، والمرأة والحداثة السياسية والفكرية والإنتاج وغيرها من المواضيع، بمثابة مؤشرات دالة توحي بانحراف قطار الديمقراطية والتحديث عن مساره الصحيح، فان سؤال "ما العمل" و"ما البديل" يفتح نوافذ جديدة أخطر حول المستقبل المنظور لبلادنا. 2. دمقرطة الدولة والمجتمع: بين مشروعية المطالب وعوائق التمرين إن المتأمل لتفاعلات المرحلة السياسية لما بعد تشكيل حكومة التحالف الرباعي التي يقودها حزب العدالة والتنمية بمعية حزب الاستقلال وحزب التقدم والاشتراكية والحركة الشعبية، تستوقفه ثلاث أسئلة منهجية كبرى:
أ. إذا كان حصول الإسلاميين على الأغلبية في ترتيب الفرق النيابية داخل البرلمان خلال تشريعيات 25 نونبر 2011 هو جواب منطقي بالنظر إلى التحولات التي افرزها الربيع العربي والحراك الاجتماعي والشبابي بالمغرب، فإلى أي حد يمكن القول بان المغرب يشكل حالة استثناء عن قاعدة التأثير والتأثر ضمن ما يصطلح عليه "بالربيع الديمقراطي" الذي انبثقت نسائمه من حقول شمال إفريقيا لتعم بشائره باقي الأقطار المجاورة بالفضاء الإقليمي والدولي؟؟. ب. هل اختيار الناخبين للأغلبية بالنكهة الإسلامية يشكل مرحلة سياسية متقدمة في مسار الاستسواء السياسي الديمقراطي ببلادنا؟ أم انه مجرد إعلان لإعادة صياغة المشهد السياسي المغربي عموما في شكله ومضمونه واليات اشتغاله التقليدية؟
ج . إلى أي حد يمكن اعتبار الإصلاحات الدستورية التي أفضت إليها توافقات ما بعد الحراك الاجتماعي والشبابي ببلادنا، ومنهجية تنزيل مضامينها الديمقراطية والمؤسساتية يشكلان لوحدهما مدخلا وضمانة ضروريين للخروج من مرحلة السلطوية إلى التطبيع السياسي بالمغرب؟. والواقع أن هذه التساؤلات المحورية الثلاثة، حاضرة اليوم لدى اغلب المهتمين والمتتبعين والفاعلين السياسيين، أحزابا كانوا أم نقابات، أم منظمات مجتمع مدني، أو جماعات الضغط في المجالات الاقتصادية والتجارية والثقافية والإعلامية أيضا. ومن هنا يتبين أن المرحلة السياسية الراهنة وما يكتنفها من تناقضات وأسئلة وطموحات انتظارات مجتمعية مشروعة، يدفعنا للقول بان المغرب مجتمعا ودولة، يشهد مرحلة تاريخية فاصلة عنوانها البارز: "المغرب المتحول"، بين منطق الإصلاح التوافقي ومطلب البناء الديمقراطي".
وبمعنى آخر، هل ما أفرزته الانتخابات التشريعية الأخيرة من نتائج سياسية نوعية ومستجدة على المخيال السياسي المعتاد لدى الفاعلين في المجال الحزبي على الأقل، قادرة في شكلها وتركيبتها التوفيقية على اختراق "حصون الممانعة والارتداد" التي ظلت لعقود خلت تشكل دروعا واقية لقوى التحكم والرجعية والاستبداد. فإذا كانت العملية الانتخابية في حد ذاتها، وباتفاق مجمل الفاعلين السياسيين، قد مرت في ظروف أكثر جدية وشفافية من سابقاتها، الشيء الذي أشر لانبثاق فصل جديد في مسلسل التمرين الديمقراطي، الذي ظل يتعثر في محطات سالفة لنفس الأغراض والمسببات القديمة، سواء لضعف التنظيم والتأطير الحزبي، لضمور الحكامة وخفوت المعايير التدبيرية الشفافة، أو لكل هذه الأسباب مجتمعة مع بعضها، الشيء الذي بقدم بعض المبررات الموضوعية لامساك الشبيبة المغربية عن المساهمة في العملية الديمقراطية برمتها. وبناء على ذلك، يمكن القول بأن "إسلاميي العدالة والتنمية" قد أحسنوا استثمار السياق الوطني والإقليمي من الناحية التواصلية والإيديولوجية، وأدركوا حزبيا مكامن الضعف والقصور لدى الأحزاب الديمقراطية واليسارية في مجال التمثل والانتخاب والتدبير والتأثير في الزمن السياسي الذي أفرزه الحراك الاجتماعي والسياسي بالمغرب. لكن الحديث عن كون النجاح الباهر الذي حققه هذا الحزب من خلال حصوله على أكبر عدد من المقاعد النيابية ضمن الأغلبية الحالية، وبالتالي، استئثاره وفقا للمنهجية الديمقراطية، بغالبية وأهم الحقائب الوزارية داخل الحكومة، يعني أن ما أفرزته صناديق الاقتراع هو الجواب الممكن والأوحد عن إرادة الشعب المغربي، (وليس عدد الناخبين المصوتين) فهذا كلام وإن كان في ظاهره يوحي بالموضوعية، إلا أنه من الناحية المنطقية والسوسيولوجية فيه الكثير من الادعاء، ولربما يعكس نرجسية فكرية وسياسية قد لا تصمد أمام قانون التطور ومنطق الجدل التاريخي المنحول، وفي النهاية يترك الحكم على صحة هذا الادعاء من عدمه للمواطنين الناخبين أنفسهم عند الرجوع إليهم في الولاية المقبلة بما تحقق ولم يتحقق من انجازات.
وبالمقابل، فإن التمرين الديمقراطي السليم، يفرض على الباحث، والمهتم والممارس السياسي أن يقر عن قناعة والتزام بأخلاقيات الممارسة السياسية الطبيعية، بأن ما أفرزته تشريعيات 25 نونبر 2011، ينبغي إيلاؤه الكثير من التقدير والاعتبار، احتراما لإرادة المواطنين الناخبين، وإن كانت نسبهم لم تصل سقف نصف الكتلة الناخبة. من جهة اخرى، لا يعدو الجدال الفقهي والسياسي الدائر اليوم حول المسافات التي تم قطعها على درب التحول الديمقراطي المنشود، وحول الأولويات والتدابير المنتظرة لانجاز القفزة النوعية من ضفة الاستبداد والسلطوية، إلى مرفأ الممارسة الديمقراطية السوية، كونه مجرد تفاعلات ومشاكسات بين المدارس السياسية التقليدية وقوى بازغة في بداية تحولها وتطورها الفكري والبرنامجي. فإذا نظرنا مثلا إلى ما ميز الأشهر المنصرمة في عهد الحكومة الجديدة من نقاشات فكرية، حزبية وشعبية، نلحظ أن هناك سجالات وخرجات اعلامية ومبادرات فكرية من هنا وهناك، تروم حلحلة الوضع السابق -الذي اشتهر بالجمود والروتينية على مستوى النقاشات العمومية- وتظل هذه النقاشات في مجملها معطى ايجابي يعكس المناخ الايجابي المطلوب لإخصاب الممارسة الديمقراطية، على الرغم من محاولة بعض الأطراف المتناظرة إعطاءها حجما وثقلا أكثر مما تتحمل.
فالفريق المشكل من "تحالف الحداثيين" ( معارضة وموالاة) يجعل من هذه القضايا مشروطية سياسية وإيديولوجية مركزية، في مسار دمقرطة الدولة والمجتمع، مستندين في ذلك على ما تمت مراكمته من مكاسب مؤسساتية دستورية ونضالية عبر عقود من الصراع السياسي ضمن مسارات "تطور المسلسل الديمقراطي" الذي توافقت حوله وتبنته القوى الوطنية الديمقراطية كخيار استراتيجي للتغيير.
أما الفريق الثاني الشكل من مجمل القوى المحافظة والتقليد، على اختلاف أطيافه ومستويات تمثله وتشبعه بقيم الحداثة والديمقراطية، فيروم من خلال تأجيج هذا النقاش، إلى ممارسة نوع من الانتشاء السياسي والضغط الإيديولوجي على منافسيه، كتعويض عن سنوات العزلة السياسية واحتكار المجال السياسي من لدن السلطة في مرحلة أولى، ثم لفترة ثانية بتوافقات مع المعارضة التاريخية بزعامة الكتلة الديمقراطية، ولتعود السلطة من جديد لاحتكار المجال العام ممثلة في "لباس جديد بطابعه الأصيل والمعاصر". وتبعا لذلك، فإن النقاش السياسي والفكري والتناظر الإيديولوجي، المهيمن على المرحلة، هو في حد ذاته مطلب وضرورة مجتمعية للتأسيس السياسي لمرحلة ديمقراطية أكثر نضجا مما هي عليه الآن.
من جهة ثالثة، يسائلنا موضوع الإصلاحات الدستورية والمؤسساتية بحدة، خصوصا ما يتعلق بمدى قدرة التحالف الحكومي الراهن على بلورة المدلول الديمقراطي للإصلاح، بدءا بالتأويل الصحيح للمضامين الدستورية، مرورا بعقلنة وتخليق الحياة العامة، وصولا إلى إرساء قواعد الحكامة الاقتصادية والسياسية السليمتين. وباستقراء بسيط لبعض المؤشرات الأولية التي تم شجيها لحد الآن منذ التصويت على الدستور الجديد، سواء حيث التقيد المنهجي بالمقتضيات الدستورية الجديدة، أو من حيث طريقة تفعيل هذه المضامين في المجال العام، وما رافق ذلك من قراراات وتغييرات وتعاليق، يدفع للقول بأن عملية التنزيل نفسها لن تكون نزهة سياسية بالمعنى الديمقراطي لمغرب الإصلاحات المجتمعية الكبرى، وإن كانت محملة بآمال عريضة وطموحات مشروعة، وانتظارات مأمولة، فإنها موشومة باكرا هات سياقها الوطني، الإقليمي والدولي من جهة، ورهنية بمدى تطور اللعبة السياسية ونضج الفاعلين الحزبيين وتمثلهم تدبير المرحلة بشكل أمثل، في علاقتهم بالسلطة وفي مدى استجابتهم لإرادة المجتمع. إن أي عملية تغيير ديمقراطي لا تستقيم مقاصدها ولا تتم فعاليتها إلا بمدى حصول القناعة والإرادة السياسيتين لدى كل الشركاء والفاعلين الأساسيين في الفضاء السياسي. ومن هنا، نعيد صياغة السؤال المنهجي حول مفهوم الانتقال الديمقراطي، خارج البعد الأحادي الضيق، ووضعه في سياق أوسع يروم دمقرطة الدولة والمجتمع اقتصاديا، اجتماعيا، سياسيا وثقافيا.