لم يسبق لموضوع أن تحدث فيه "خلق الله كلهم" مثل موضوع دفاتر التحملات في القنوات التلفزيونية هذا. حتى الذين لم يسبق لهم أن فتحوا جهازا تلفزيونيا في حياتهم, والذين لا تتعدى علاقتهم بالتلفزة مرحلة معرفتها باعتبارها المكان الذي توضع فوقه بعض الحاجيات في البيت أدلوا بدلوهم في الموضوع, وتحدثوا إن لم يكن بإسهاب فباختصار عن استهداف الهوية, وعن الرغبة في إصلاح الحال التلفزي المعوض, وعن أشياء أخرى فيها ماوصل إليهم بشكل عاد, وفيها مافهموه بأنفسهم, وفيها مالم يصله وما لم يفهموه, لكنهم تحدثوا عنه على كل حال. الأمر طيب في الختام لأنه يدل على دمقرطة نحتاجها للنقاش, وإن دخلنا أحايين كثيرة في مجالات الهرطقة, و"الدخول والخروج فالهضرة", من طرف عديد ممن انبروا للحديث عن دفاتر التحملات وعن معركتها, لكن مافي الأمر أي إشكال. هو بالعكس دليل على أن الكل يستطيع الحديث عن أي شيء دون أي مشكل على الإطلاق. فقط يرجى في مثيل هاته الحالات تجنب الحديث عن الموضوع دون الإلمام به جيدا ودون إلقاء نظرة على دفاتر التحملات هاتها, وقراءة جزء منها قبل الخروج على الناس بالتحليلات العبقرية والخطيرة لأسباب هجوم "البوليس الإعلامي" عليها, وذلك تفاديا لضرب الناس بالكثير من الجهل غير القابل نهائيا لإصلاح الحال مهما فعلنا بعد استشراء المصاب بسببه في الناس. هكذا قرأنا من يطالب بسحل موظفي التلفزيونات لأنهم تجرؤوا على الكلام, وقرأنا لمن يعتبر أن "حزب فرنسا" تحرك خلال هاته الأيام, وقرأنا لم يعتقد أن دفاتر التحملات "تعيد الاعتبار للدين في التلفزيون المغربي, وهذا هو سبب المشكل كله:, بل وقرأنا من يتصور أن التلفزيون المغربي كان قريبا من إصلاح حاله, لكن معارضة الجهات إياها وجيوب مقاومة التغيير الكثيرة للمشروع سيعطل علينا الموضوع كله سنوات أخرى إضافية. نحن نتصور الأمور وفق منطق بسيط للغاية: دفاتر التحملات هاته ليست إلا ذريعة لفتح النقاش حول اتللفزيون المغربي, وحول مانريده من هذا التلفزين. هل نريده جهاظا قادرا على مخاطبة الناس فعلا والاشتراك معهم في تدبير المرحلة المقبلة من تاريخ البلد؟ أم نريد الحفاظ على ماصنع علاقتنا بالتلفزيون حتى اليوم, أي الحفاظ على الغباء المزمن وعلى الانعدام أي حس إبداعي, والابتعاد عن الناس كلية, وارتكاب رداءات فعلية ما أنزل الله بها من سلطان, وتبريرها للناس باعتبارها الشيء الوحيد الممكن اقترافه أو القيام به في نهاية المطاف؟ نحن نعتبر أن السؤال الذي لم يطرح في كل هذا النقاش حول دفاتر التحملات هو هل سيبقى تلفزيوننا مثلما هو الآن؟ الدفاتر كانت وسيلة من بين وسائل أخرى كثيرة وممكنة لتغيير حال هذا الجهاز, لكنها ليس الطريقة الواحدة. واليوم ومع كل النقاش الذي أثير حول عدم إشراك قيادات التلفزيون في تهييء هذا المسار المستقبلي, يمكننا القول إن الدفاتر أظهرت محدودية قدرتها على التغيير وأن ثمة معطى يفرض نفسه يقول لنا إن علينا البحث عن طريقة أخرى, تخلخل هذا الجهاز, وتعلن له أنه ليس مرضا عليه من طرف المغاربة وإن كان مرضيا عليه من طرف من يتحكمون في آلة تحكمه الكبيرة, باعتباره قادرا على صنع مايريدونه هم من جهاز مثل هذا, يلعب دورا خطيرا في مخاطبة الجميع, وواضح اليوم أن ثمة إصرارا على تركه في محله سر, مثلما تقول العبارة المسكوكة ليس فقط من خلال رفض الدفاتر وهذا الموضوع قابل للنقاش, ولكن أيضا من خلال مؤشرات عديدة تقول إن أهل الحل والعقد في المجال يريدون الإبقاء عليه مثلما هو مهما وقع. وهنا نقول إنه من غير الممكن أن نعبر كل هذا النقاش, وأن نبقى في الختام في محلنا. ميزة ما فتح من مناقشة حول الدفاتر هي أنه أثبت لنا اهتمام الخلق كلهم بالموضوع, وربغتهم في الإدلاء بدلائهم فيه, واهتمام عدد كبير من الناس بالأمر, مايعني أن الموضوع حيوي ويشغل بال الكل أو الأغلبية لكي نتفادى التعميم, ومايعني أنه موضوع الساعة وأنه مملزم لنا جميعا بالتفكير في حل له قبل فوات الأوان. نعود الآن إلى ما تحدثنا عنه في البدء, أي حديث الكل عن الموضوع دون أدنى علم به. هذا الأمر يسمونه ضريبة دمقرطة النقاش, وهو ليس أمرا سيئا وإن حمل إلينا كثيرا من الجهل, بل هو الدليل على أننا ملزمون بتثقيف أهلنا وشعبنا في كل المجالات حتى إذا مارغبوا في حديث عنها وجدوا بعض الزاد اللازم والضروري لفعل هذا الأمر, وهي مسألة ستأتي مع الأيام. والله من وراء القصد على كل حال.