لم أعرف عنه أنه غضب يوما، وثارت موجة من الزبد. لم أعرف عنه أنه اشتكى يوما، ونزل شتاء من البرد والضجر، ما أعرفه عنه، كلمات جريئة واضحة في سبيل الحب الأبدي للبلاد. ما أعرفه، أنه لا يتأفف حتى لا تصاب البلاد بفصل من اليأس أو التعاسة. لهذا كان عبد الجبار السحيمي، فردا في صيغتنا الجماعية. ولهذا أيضا كان يتكدس في صمته، بعيدا عن الأضواء أو يتكدس في مرضه بعيدا، أيضا، عن ألمنا. أكاد أجزم، أنا الذي التقيته لماما، وتحدثت إليه لماما، أنه كان عبقريا في غضبه، والغضب هنا هو الكم الهائل من القناعة والمطلق اللانهائي الذي تسع له روحه.. عبد الجبار السحيمي تمرين حميمي على النظر العزيز في الوجه المغربي السمح، العصامي والمستقيم. قدرة، أيضا، على اقتراف الطيبوبة في زمن الشك، وفي زمن القسوة. القلم الذي يترك مداده على صفحة روحك إلى الأبد. شجاعة الرأي، والقدرة على رسم المشترك الذي يجمع الفرقاء. منذ مدة انسحب إلى دائرته الخاصة، دائرة مفعمة بضوء إنساني، كبير.. ومفعمة، أيضا، بلغتها الخاصة، الصقيلة السخية والبهية..أيضا. لا نعرف أحدا يقول كلاما سيئا عن هذا الولد المستحيل، الذي عاش تسامحه مع الجميع كالنهر يعبر الطبقات السحيقة ويعلو إلى سطح السريرة.. ربما كان الوحيد من بين أدبائنا ومن بين صحافيينا، الذي كنا لا نملك إزاءه سوى المحبة والود. ربما كان الوحيد، أيضا، الذي كان لا يملك إزاءنا سوى التقدير والاحترام والبساطة.. حتى أكثرنا قدرة على النميمة، وإسماع صوتها في المجالس، لم يكن يجد ما يمكنه أن يقوله عن الولد الصامت، المرتكن إلى طيبوبته.. ولأنه كان يتألم بدل الكثيرين، من أدعياء الصحافة ومن التبرجز الواهم، فإن ألمه تحول مع انصهاره النهائي إلى طيبوبة وأخلاق لقبول الآخر والدفاع عنه وبناء هويته المشتركة.. عندما ندفن السحيمي ندفن جزءا من طيبوبتنا ومن تلقائيتنا وجزء من سخائنا الروحي. لم يكن يطلب ثمنا للطيبوبة والسخاء الروحي، كان يطلب منا جميعا أن نكون قادرين على القبول ببعضنا. هكذا عرفته في أحد مؤتمرات اتحاد كتاب المغرب، الساخنة. أحيانا كان يخيل إلينا كلما التقيناه، يخبرنا عنا.. يقدم لنا أخبارنا، وربما من شدة حرصه على أن نكون معه في مركب الأدب الكبير.. ولم نكن نشعر معه إلا أننا أمام الروح الأبدية في يومية «العلم»، كما تعلمنا منها معنى الانتماء إلى المغرب وإلى أدبه، وإلى التاريخ الطويل والشاق لبناء هذا المغرب.. ودعنا عبد الجبار لأنه أنضج المغرب لكي يودعه بدون شعور بأن الرجل لم ينه مهمته. نضج للرحيل، لأنه شعر بأن جزءا كبيرا من رسالته يتحقق.. رحل لأنه شعر، أيضا، أنه عليه أن يغير المكان العادي لمصابيح الروح، حتى يرخي علينا ظلا جديدا، ظل الأدب الذي نقرأه هذه الأيام من جديد، كي نعزي فيه أرواحنا. وداعا السي عبد الجبار، وليجعلك الرب في حضن الخلود بهيا كما ترسمك أرواحنا..