ظهر مصطفى الرميد، في أول لقاء له مع الصحافة، بعد تعيينه وزيرا للعدل والحريات، مدافعا شرسا عن "هيبة الدولة". فخلال اللقاء الذي احتضنه بمنزله بالدارالبيضاء، مساء يوم الإثنين 6 فبراير الجاري، كرر الوزير والقيادي بحزب العدالة والتنمية هذا التعبير الإضافي (هيبة الدولة) أكثر من مرة. وفي إحدى المرات، قال بالحرف: "هيبة الدولة لا يمكن أن تكون محل نقاش". لم يسبق لي، وقد تتبعت مواقف الرجل، منذ أن أصبح له موقع بالبرلمان وبقيادة الحزب الإسلامي قبل 12 سنة، وتدخلاته البرلمانية وتصريحاته الصحافية ومرافعاته بالمحاكم...، (لم يسبق لي) أن سمعته استعمل هذا التعبير. فلم يلجأ في السابق إلى مثل هذه العبارة، للتعبير عن أن معارضته للدولة لا تعني أنه يريد أن يمس هيبتها. وها هو، اليوم، يستعمل هذا التعبير الذي يستبطن حمولة خطيرة. والمعطى الجديد بالنسبة إلى كل متتبع هو أن رميد اليوم وزير. أقول هذا وأنا أعرف مواقف الرجل السياسية وجرأته داخل حزبه وخارجه. بغض النظر عن أسباب ودواعي أو حتى خلفيات الأحداث التي شهدتها وتشهدها مدينة تازة، منذ بداية شهر يناير، فإنها (أي الأحداث) مثلت اختبارا للحكومة الجديدة، التي لم تخل تصريحات رئيسها، منذ تعيينه، من أنها لن تناهض الحريات العامة ولن تنتهك حقوق الإنسان، وأنها ستتفاعل إيجابيا مع احتجاجات المواطنين... صحيح أن هذه الأحداث صادفت تشكيل الحكومة وتزامنت بداياتها مع ظروف استكمال تنصيبها، ولكن، مع ذلك، لا يمكن أن ننكر أن حكومة بنكيران سقطت في أول اختبار. لن أتحدث، هنا، عن تفاصيل الأحداث. فوسائل الإعلام، وخاصة الوسائل الحديثة، نقلت وتنقل، بالصوت والصورة وبدون انقطاع، ما يكفي من التفاصيل والأخبار، وليست كلها "مختلقة أو زائفة أو ملفقة أو تم تضخيمها"، كما جاء في بلاغ الحكومة. لقد سقطت الحكومة في أمرين: الأمر الأول يتعلق بالكيفية التي تعاملت بها مع الأحداث، منذ نشوبها. في مرحلة أولى، نأت الحكومة بنفسها عن الأحداث، وتركت المدينة وساكنتها أمام تعامل أمني صرف، لم يعمل إلا على تأجيج الوضع، في الوقت الذي يفترض أن تسرع الحكومة إلى التدخل الإيجابي لتدبير مثل هذه الاحتجاجات، وتعمل جاهدة، بالنظر إلى السياق الذي تجري فيه، على امتصاص الغضب وإشعار الناس بالاطمئنان. ولعل هذا ما يفسر أن المحتجين ظلوا يواصلون احتجاجاتهم، من جهة، لاستنكار ما تعرضوا إليه من تعسف القوات الأمنية، ومن جهة أخرى، للتعبير عن أنهم لم يشعروا من الحكومة بالاطمئنان اللازم. الأمر الثاني يتعلق بكيفية التعامل مع الرأي العام بشأن أحداث خطيرة. لم نلمس تعاملا جديدا يختلف عن تعامل الحكومات السابقة. الحكومة ركنت، في البداية، إلى الصمت. ووسائل الإعلام العمومي ظلت وفية لخطها "الرسمي"، حيث ظلت تنقل فقط التصريحات الرسمية، وتبث المعطيات التي تصلها من جهة أمنية، تعد طرفا معنيا أو حتى متورطا في ما جرى ويجري بهذه المدينة، التي أصبح الجميع يُجمع، وبعد الذي جرى، على أنها "منكوبة". وحين أرادت الحكومة أن تنطق، أصدرت بلاغا لن يعمل إلا على تأجيج الوضع أكثر من معالجته، خاصة أن الأمر لا يتعلق بأحداث معزولة في المكان والزمان، وإنما بأحداث تجري في سياق عام يتجاوز أحداث مدينة تازة وزمانها. البلاغ في بنيته، وليس فقط في مفرداته، لم يخرج عن البلاغات التي دبجتها حكومات سابقة، للرد على احتجاجات اجتماعية شهدتها مدن وقرى. لم يستطع بلاغ حكومة بنكيران أن ينأى بنفسه عن لغة التهديد، حين حرص على أن يذكر المحتجين بعاقبة التعرض إلى المساءلة. كما أنه لجأ إلى استعمال "المقدسات"، حين استعمل عبارة "رموز الدولة"، وشدد على أن الحكومة "تدين إقحام رموز الدولة وثوابتها"، وعلى أنها "ستعمل على تحريك المساءلة والمتابعة". ولم تفلت الصحافة من لغة التهديد، وإن استعمل البلاغ عبارة "بعض وسائل الإعلام". ويبدو أن "هيبة الدولة"، التي استعملها الرميد في لقائه مع الصحافيين، هي التي سعى البلاغ إلى الدفاع عنها. "الهيبة" لا تدخل ضمن مواصفات الدولة الديمقراطية، ولا ضمن مواصفات دولة "الملكية البرلمانية"، التي ظل الرميد نفسه ينادي بها، خلافا لرئيس الحكومة. وحتى في دستور 2011، لا نجد هذه العبارة، التي تريد الحكومة الجديدة أن تستند عليها لمواجهة احتجاجات الناس أو حتى مخالفاتهم. إن الأمر يتعلق ب"مفهوم" غير قانوني وغير ديمقراطي. ولن أبالغ إذا قلت إنه مفهوم استبدادي. إن الدولة الديمقراطية لا تنشغل ب"الهيبة". والدول التي كانت تريد أن تقوم على الهيبة كلنا يعرف مصيرها، سواء لدى الغرب، أو عند العرب، خلال هذا الربيع العربي الجاري. وبالرجوع إلى التاريخ القريب، حتى لا نتيه في التاريخ البعيد، نجد أن الحكام المستبدين كانوا يبررون لجوءهم إلى الاستبداد بدعوى الحفاظ على "هيبة الدولة". والمفارقة العجيبة أن حكومة بنكيران جاءت في سياق تنامي مطلب "إسقاط الاستبداد"! ارجعوا، رحمكم الله، إلى الخطابات الأولى لرؤساء الدول الذين أسقطهم الربيع العربي، في تونس ومصر وليبيا واليمن، لتجدوا مثل هذه التعابير، حين حاولوا مواجهة غضب الشعوب، باستعمال "لغة الهيبة". لقد كانت أربعة أسابيع كافية على تعيينها، لتتحدث الحكومة عن استهدافها من طرف "البعض"، الذي تقول إنه "سعى إلى توظيف مطالب اجتماعية بطريقة مغرضة لتأزيم الوضع في المدينة"، ولتناضل من أجل "هيبة الدولة". بالمناسبة، أذكر الوزير والمناضل والحقوقي مصطفى الرميد بأن الوزير الأول الأسبق الاتحادي عبد الرحمان اليوسفي، بمجرد ما أصبح وزيرا أول في السياق المعروف، حتى أخذ يتحدث عن "سر الدولة"، في مواجهة أي سؤال داخل حزبه، ويعلن كل مرة عن وجود "جيوب مناهضة التغيير"، للرد على كل مختلف معه، وكان يقول في جلسات خاصة، ردا على بعض الاحتجاجات التي كانت تخوضها فئات مختلفة من المغاربة، "إن المغرب في ماي 68 دائم"... هذه فقط نماذج للذكرى. (وذكر، فإن الذكرى تنفع المؤمنين).