ما عاشته مدينة تازة ومدن أخرى، بتزامن مع تعيين الحكومة الجديدة، وما شهدته مقرات بعض الوزارات، بتزامن مع تسليم السلط إلى الوزراء المعينين (مقر وزارة التربية الوطنية، ومقر وزارة التضامن والمرأة والأسرة...)، ليس بالشيء الهين. ولا يكفي أن يتوقف التعامل مع ما تطرحه هذه الأشكال من الاحتجاجات وهذه النوبات من الغضب عند "إقناع" المحتجين بإخلاء المقرات الحكومية التي اقتحموها، أو بفك اعتصاماتهم، أو برفع وقفاتهم...، وهي المهام التي وجد رئيس الحكومة "المعينة" نفسه مجبرا على القيام بها في أولى أيام مباشرته لتدبير الشأن العام. والمثير أن البعض يريد أن يتعامل مع نتائج هذه التدخلات باعتبارها "منجزات" بدأت ترى النور في هذه البلاد "المحظوظة"، حتى قبل أن تحظى الحكومة بالتنصيب البرلماني، لتكتمل شرعيتها الدستورية.
لا يا بنكيران. لم يُسنِد إليك الناخبون، أو بعض الناخبين، هذه المسؤولية، لتتحول إلى إطفائي تفك هذا الاعتصام، أو تحرر مقر هذا الوزير أو ذاك (مع كامل الاحترام والتقدير لمهنة الإطفائي العظيمة والنبيلة، التي تجسد كل قيم التضحية بالنفس والبذل والعطاء من أجل إطفاء الحرائق وإنقاذ الأرواح واستمرار الحياة).
كن على يقين أنك إذا أردت أن تخوض في هذه "المهمة النضالية"، فلن تكفيك ساعات اليوم الأربعة والعشرين، ولن تلبي كل "طلبات النجدة" التي ستصلك من العاصمة وحدها. ولن تجد، بالتالي، لا الوقت ولا الطاقة للنهوض بأعباء المهام والاختصاصات والصلاحيات التي يخصك بها الدستور الجديد، الذي جبت البلاد طولا وعرضا للتبشير بفتوحاته.
قد يكون هذا العمل الذي تقدم عليه ذا أثر نفسي، حين يصدر عن رئيس حكومة، يكلف نفسه عناء التنقل إلى مكان المعتصمين، ويباشر الحوار معهم إلى أن ينجح في جعلهم يفكون الاعتصام أو يخلون مقر هذه الوزارة أو يطلقون سبيل ذلك الوزير. لكن ميزان "حسناتك الحكومية"، باعتبارك رئيس السلطة التنفيذية، لا يُحسب فيه إلا الأثر المادي؛ أي الحل الفعلي للمشاكل ومعالجة الدواعي التي جعلت أولئك الشباب يوصلون مطالبهم إليك وإلى وزراء حكومتك بتلك الأشكال. لقد سئم المغاربة أن يدخلوا في كل مرة "قاعة انتظار"، وأن يعيشوا دائما "على أمل أن..."، ليكتشفوا، عند انقضاء كل مرحلة، أنهم داخل لعبة كبيرة تحمل اسم "ربح الوقت"، ويجدون أنفسهم هم الخاسرين دائما، بعد أن ضيعوا الوقت لفائدة جهة أخرى تكون هي الرابحة. لقد استوفت اللعبة وقتها. وأية محاولة لربح مزيد من الوقت من طرف "أصحاب الوقت" ستكون وبالا على من يقف وراءها. وهنا، لا يٌعذر بنكيران بجهله لقانون اللعبة.
إن درجة الاحتقان في المغرب مرتفعة. والغضب بلغ مبلغه الشديد. ويكفي أن يتجول المرء في شوارع مدننا الكبرى والصغرى، وفي أسواق قرانا، ليلمس درجة الاحتقان الذي يعكسه السلوك التلقائي للناس وتفضحه علاقاتهم في الطرقات والشوارع والأسواق.
إني لأعجبُ لارتياح وزراء العدالة والتنمية و"فرحهم الطفولي" لما هم فيه. إن ارتياح حزب العدالة والتنمية وارتياح وزرائه الذين اكتشفوا، فجأة وبمجرد ولوجهم مكاتب وزاراتهم، "فرح" المغاربة يكشف مستوى سطحيا في التعامل مع المجتمع المغربي. المغاربة يقولون "سبعيام ديال الباكور كتسالي". وأغلب الظن أن هذه "الأيام السبعةّ (بزمن المثل الدال) لن تطول كثيرا. ولعل مقدمات ذلك كانت واضحة من تشكيلة الحكومة نفسها، التي جاءت لتكرس ما كان سائدا في المغرب، قبل فاتح يوليوز 2011، وقبل 20 فبراير، وقبل زمن "الربيع العربي". وإذا أردنا أن نقيس السرعة في علاقتها بالزمن، فإن هذه الحكومة تمثل تراجعا صارخا حتى عما كان سائدا قبل هذه الأزمنة، بالنظر إلى ما كان منتظرا اليوم. وكل التعليقات التي تلت الإعلان عن الحكومة، والتي صدرت عن فاعلين سياسيين أو مدنيين أو عن باحثين مختصين، تكاد تجمع على هذا التراجع. إن ما يراه وزراء العدالة والتنمية "فرحا" هو، في واقع الأمر، مؤشر إلى انتظارات كبيرة ظل المغاربة يراكمونها "على أمل أن...". ولأن الظرفية التي "صعد" فيها حزب العدالة والتنمية ليست كسابقاتها، محليا وإقليميا وحتى دوليا، فإن الانتظارات هي الأخرى زاد حجمها. ولذلك، يسارع اليوم أصحابها إلى إعلانها بعدما جمَّدت مفاصلََهم برودةُ "قاعة الانتظار". ولن ينفع أي مبرر في عدم تلبيتها. وهو ما سيعجل بتحويل هذا "الفرح" المزعوم إلى "غضب" جارف يصعب توقيفه.
ليس من حق أي مسؤول يتحلى ولو بذرة واحدة من المسؤولية أن يتباهى، اليوم، بالاستقرار الذي يعيشه المغرب. إنه استقرار ظاهري فقط، يهم القشرة السطحية للمجتمع. أما ما تخفيه هذه القشرة فغليان لا يتوقف. إنه استقرار هش، بإمكان أية لملمة أن تجعل الغليان يعلو هذه القشرة الهادئة في السطح.
ولمواجهة هذا الوضع، لا يجدي لا البكاء في المنزل أو في المسجد، ولا ركوب القطار أو الحافلة. إن النجاح في المواجهة يتمثل، أولا وأخيرا، في حل المشاكل الحقيقية التي تواجه الشعب المغربي، والالتزام بتنفيذ التعهدات والوعود التي تم إطلاقها خلال "الزمن الانتخابي".
للتذكير فقط، أشير هنا إلى أن وزراء كثيرين بحكومات سابقة كانوا يستقلون القطار للتنقل اليومي بين الدارالبيضاء، حيث مقر سكناهم، والرباط، حيث مقر الوزارة. ولا أرى في هذا أي تميز أو تفاضل بينهم وبين الوزراء الذين يستعملون السيارة. فمن شاء فليركب القطار، ومن شاء فليركب السيارة. المهم هو العمل الذي سينجزه، والتعهدات التي سيتم الوفاء بها.
لقد مر اليوم (يوم كتابة هذه السطور)، بالكمال والتمام، أسبوع على تعيين هذه الحكومة. وإذا كان بإمكان أي متتبع أن يسجل أن التعهدات التي أطلقها زعيم حزب العدالة والتنمية بخصوص تشكيل الحكومة وتركيبتها لم يتم الوفاء بها، فإن بإمكانه أيضا أن يسجل أن بعض "الخرجات" لن تنفع ك"تخريجات" للتغطية على هذا الفشل الذي يمس الجوهر. خسر بنكيران الامتحان الأول، حين عجز عن تنفيذ أول وعوده. وسنتابع كيف سيواجه الامتحانات القادمة... افتتاحية "الحياة" ل 12/01/2012 تنشر في "كود" باتفاق وموافقة الناشر