أكره الماضوية وتمجيد الأيام الفائتة والقول _ بسبب أو بدونه _ إن الأمس كان أفضل من اليوم, لأنني مقتنع أن اليوم هو الأفضل بكل تأكيد وأن الغد سيكون أحسن منه, لكنني لم أستطع يوم الأربعاء الماضي, وأنا أشاهد الفيلم الوثائقي الجميل الذي قدمته مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد عن الراحل الكبيى في الذكرى العشرين لرحيله من القول إننا "ماعندنا زهر كجيل, فقد وجدنا الخشيبات زعامات سياسية, في الوقت الذي وجد أسلافينا فيه رجالا ونساء حقيقيين يعبرون بكل شجاعة سياسية عن مواقفهم الحقيقية, يدفعون ثمنها, ويمضون فيها حتى النهاية". هل من حاجة اليوم لعبد الرحيم بوعبيد في المشهد السياسي المغربي؟ لا أعرف, لكن الكل يتفق على أن الحاجة ماسة لسياسي يقول عمق تفكيره مثلما هو, ولايتردد في التضحية بكل شيء من أجل الثبات على هذا الموقف, وكذلك كان عبد الرحيم.
المغرب اليوم بحاجة إلى سياسي يتحدث فتنصت له الجماهير, وتؤمن أنه قادر على أن يقول لها الحقيقة التي لم يعد يقولها أحد. وكذلك كان عبد الرحيم.
المغرب اليوم بحاجة إلى رجال سياسة يرافقون الدولة بالشراكة المتوازنة, التي قد تأخذ شكل الصراع الضاري حول أمور معينة, وقد تأخذ شكل التفاهم الكامل حول أمور ثانية, دون أن يفقدوا لوهلة واحدة مصداقيتهم أو يتورطوا في منح الشيكات البيضاء الغبية دون أي مقابل. وكذلك كان عبد الرحيم.
من الأخير "كاع", وقف عبد الرحيم بوعبيد يوما في وجه الحسن الثاني, وقد كان من كان, وقال له في قضية الاستفتاء "لا", وذهب بعد ذلك إلى سجن ميسور لكي يؤددي الثمن "كاس". رفض ألا يرتدي زي السجن, وبقي هناك وبقي الحسن الثاني الذي كان يعرف جيدا من هو عبد الرحيم بوعبيد يبحث عن طريقة ما, أو مخرج لحل الإشكال, ولإخراج رجل الدولة والمناضل الذي كانه عبد الرحيم وإعادته إلى الناس.
ولو آمن عبد الرحيم بما آمن به من أتوا بعده من ضرورة "التفكير في النفس أولا", لمات إمبراطورا في هذا البلد, لكنه مات معارضانقيا, ورأى وهو ميت الجماهير وراءه في تلك الجنازة الجماهيرية التي يحتفظ بها تاريخ المغرب إلى الأبد, والتي ابتدأ منها الفيلم الوثائقي الذي عرض الأربعاء في تكريم عبد الرحيم, وانتهى عندها دلالة أن الرجل أخذ نصيبة الكامل من نضاله, حين خرج معه كل ذلك الشعب في ذلك اليوم الحزين لكي يزفه للخلود, ولكي يقول له بكل "تمغربيت" : شكرا. ومع ذلك لامفر من طرح السؤال: ألا زالت في إمكانيات المغرب السياسي اليوم أن يخلق مثل عبد الرحيم؟
في الإجابة الأولى السريعة, التي قد تمد ناظريها فقط في المكان الأول للمشه السياسي الكئيب الذي يحيط بنا من كل مكان, سنقول "لا". في الإجابة الأخرى المتريثة, المتمهلة, التي تعرف المغرب حق قدره فعلا سيكون من واجبنا أن نقول "نعم, من الممكن, بل من المتوقع جدا أن يلد المغرب مجددا أمثال عبد الرحيم".
الرجل فلتة نادرة فعلا, لكن البلد الذي أنجب عبد الرحيم يوما لايمكن أن يصبح عاقرا هكذا فجأة ودون سابق إعلان. نعم فعل أوفقير والبصري وغيرهما الأفاعيل العجيبة في المشهد السياسي المغربي. نعم تحولت السياسة إلى لعبة مقامرة من الدرجة العاشرة. نعم أفسد المال البلاد والعباد. نعم فقدنا السياسي الذي يفكر في الشعب لصالح السياسي الذي يفكر يف المنصب والعائلة والأقارب. نعم عشنا الدمار الشامل من هذه الناحية. نعم, تم إفراع الأحزاب السياسية من أي محتوى فعلي لهاو وأصبحت قوقعة كبرى فارغة, تجق عليها فتسمع الصدى القاتل للصمت يجيبك من كل مكان. نعم الصورة سوداوية إلى أقصى حد, مرعبة في تفاصيلها السلبية, منبئة ومنذرة بالكثيرمن الوبال غير هذا الذي نلمحه في كل الاتجاهات.
لكن ومع ذلك الجينات المغربية التي صنعت مثل عبد الرحيم يوما لن تعجز عن مفاجأتنا في الزمن اليوم أو غدا بمن يشبهه في الروح العامة. قد يختلف عنه في كثير التفاصيل, لكنه في النهاية سيكون شبيها بالروح التي صنعت الرجل في يوم من الأيام. لاقح لنا في اليأس, فقد أصبح الأمل خيارنا الوحيد اليوم, بعد أن خذلنا سياسيو آخر زمن, وتركونا لوحدنا في مواجهة ولمواجهة الدمار القاحل المتوغل في كل المكان.
لذلك نحمل العلامات المضيئة للتاريخ المغربي المشترك مثل عبد الرحيم وغيره بين الأعين دلالة عبور أناس حقيقيين أصلاء من هنا, ودلالة الحياة التي نعتبر أنها ستبقى ممكنة إلى الختام على الكوكب المغربي القادر على مفاجأتنا باستمرار. لذلك أيضا كنا عديدين ممن أحسوا باليتم يوم الأربعاء الماضي وهم يشاهرون ويستمعون لعبد الرحيم بوعبيد, لكننا في الختام أحسسنا بما يشبه الرغبة في الأمل, والرغبة في التشبث به أن النهاية ليست هي هذه, وأن المصير سيكون أفضل بكل تأكيد. فقط علينا ألا نفقد الأمل كلية في البلد...
ملحوظة لاعلاقة لها بماسبق بعضهم شعر بالغضب لأن الحاقد خرج من سجنه لمعانقة الحرية. بعضهم كان يريد استمرار هذا الملف الأسود لكي يجد مايقوله, وحين سمع أن الشاب إبن حي الوفاق بالدار البيضاء عانق حريته يوم الخميس الفارط, شعر هذا البعض بالحزن والأسى لأن "ملف آخر حيدوه ليهم من المزايدة بيه".
ترى لو أزلنا كل الملفات التي يزايد بها العدميون, وأسكتناهم, كيف سيكون الحال؟ بالتأكيد سيكون أفضل, وهو الأمر الذي ينبغي أن يشتغل عليه من بيدهم الحل والعقد. "حيدو لهاد الناس" المبررات الكاذبة أو الحقيقية التي يستغلونها للإساءة لصورة هذا الوطن, وبدوركم حاولوا ألا تسيئوا له مجددا, فقد تعب من كم الإساءات المتتالية هذا