بالشعر الأشعث ذاته الذي لم يكن يعرف إلى أي مكان ينبغي أن يلقي بيه. بالنظرات المرعبة إياها التي فقدت الكثير من رعبها لحظة إلقاء القبض, واستحالت نظرات راغبة فقط في التوسل حد التسول, مقابل قليل عطف يحفظ الحياة ولا شيء غير الحياة. بالمشهد الداكن إياه الذي جعله رئيسا مدى الحياة لبلد لم تختره أبدا, لكي كون على رأسها فارق معمر القذافي الحياة. البعض اليوم, وبعد فوات الأوان حقا, سيقولون عنه كلاما كثيرا. الحكايات ستخرج من العدم ومن كل مكان, تروي السيرة الحقيقية أو الكاذبة لواحد من أبطال هذا الزمان. ستضيف إلى توابل الكذب كثيرا من بهارات السيناريوهات الفارغة, وستعطي للناس الراغبين في سماع المزيد كثير أشياء منها البعيد عن الحقيقة, ومنها الكاذب تماما, ومنها المزور الذي يستعين بالغموض الذي يلف الأشياء لكي يقول كل مايشاء.
اليوم حكاية معمر القذافي ينبغي فعلا أن تروى بشكل آخر لاعلاقة له بماترونه في شاشات التلفزيون, والتي تقدم لنا الحقائق المضادة كلها وتنتهي عند جملة تقول كل جهل الصحافة الكبير بالواقع الفعلي الذي تم: "وسط ملابسات غامضة لم يتم الكشف عنها حتى الآن". حكاية معمر هي حكاية الشعب العربي أولا. حكاية هؤلاء الناس الذين يرضون على أنفسهم أن يحكمهم مجانين ثبت رسميا و"بوراق الطبيب" مثلما نقول في دارجنا أنهم "شوية لاباس".
كانت الجموع تصرخ باستمرار لمعمر في الساحة الخضراء, وهي اليوم نفس الجموع التي تصرخ ابتهاجا بمقتله. الوجوه تتشابه تماما, المعالم هي هي , والسحنات لاتختلف نهائيا عن السحنات الصارخة بالنقيض في وقت سابق من الأوقات. وعندما كنا نرى معمر القذافي يساق إلى حتفه الحزين يوم الخميس الماضي, كان التساؤل الوحيد الذي يطوف في الرأس هو : أين ذهبت الجموع التي كانت تصرخ لمعمر في وقت من الأوقات؟
لاوجود لها نهائيا. بح. غابت في مكان غير معلوم. أو ربما هي التي وضعت لحى هذه المرة على وجهها, وارتدت ملابس الثوار العسكرية, وصاحت "الله أكبر" قبل أن تقرر تصفية الرجل وتصفية الحساب التاريخي الذي جمعها به منذ قديم الزمان.
بالتأكيد هي نفس الوجوه. نفس الشعب الذي كان يصيح لصدام حسين "بالروح بالدم, نفديك ياصدام", والذي اكتشف يوم ذبح أضحية العيد أن صدام حسين قد يتحول إلى أضحية هو الآخر بكل سهولة لكي يرضى مقتدى والأمريكان, ولكي تدور الدورة بشكل كامل دون أدنى تعثر لما أسمته كوندوليزا رايس (تلك التي زارت القذافي ذات زمن والتقطت معه الصور التذكارية للصدفة الماكرة) الفوضى الخلاقة.
هي نفس الوجوه التي كانت تصيح لمبارك "نموت إحنا وتعيش إنت ياريس". هي اليوم تأمل من التلفزيون أن يمنحها محاكمة مبارك مسلسلا تلفزيونيا سخيفا, يظهر فيه مرة وهو يخفي وجهه, ومرة ثانية وإبناه علاء وجمال الذي كان ممكنا أن يكون رئيس مصر المحروسة لولا تطور الأمور, وهما يحاولان حماية والدهما من كاميرات فضولية ظل يعشقها ويعشق المرور أمامها باستمرار أيام كان فرعون بر المحروسة.
هي الوجوه ذاتها, وهي الشعارات ذاتها, وهو الجهل ذاته الذي يأخذ شكل الخوف من الحكام حين سطوتهم, ثم يأخذ شكل الانتقام منهم حين السقوط.
لامشكل لدي مع الحكام, فهم كائنات تحافظ على مصدر سلطتها "باللي كاين", وهي في سبيل ذلك _ خصوصا في مجتمعات مثل مجتمعاتنا بعيدة تماما عن الديمقراطية _ تفعل الأعاجيب وترتكب كل الفواحش من أجل هذا الأمر. مشكلتي هي مع الشعوب التي تستطيع الصمت, لا بل التمجيد, على الحاكم لسنوات تبدو كالقرون الطويلة, والتي تنتظر يد العون الأجنبية لكي تلامس ماتسميه التحرير, ولكي تغني عبر قنوات الفضاء قدرتها على تحقيق كل الأحلام, قبل أن تستفيق على الكوابيس المرعبة التي تأخذ هذا الشكل الانتقامي الكبير.
مشكلتي مع الجموع التي تصرخ للحاكم حين يكون منتصرا, والتي تصرخ ضده حين ينهزم. أرى في المسألة الدليل الذي لا أحتاج لاقتياده كل مرة على أن الأمية والجهل والتفقير وكل الكبائر التي ترتكب في حق هذه الشعوب نجحت بالفعل في جعلنا أحط الناس قدرا في العالم اليوم. ولو أن مشهد سحل القذافي حيا وقع في أي دولة غربية لقامت الدنيا ولم تقعد. أما وقد نفذه مسلمون عرب بلحاهم الكثة, التي تقول للغرب كل شيء عنا فالمسألة في عداد المقبول, لأننا أصلا "همجيون قاتلون بالفطرة والسليقة", أو مثلما يقول الراغبون في قتلنا بالجهل "ذباحون نتأسى بذباح".
لذلك لا إشكال. سيقول الإعلام الغربي إن "معمر مات في ظروف غامضة". يردد الإعلام العربي بعده نفس الكلام. ستطوي ليبيا صفحة أحزان أولى لتبدأ صفحة أحزان ثانية. ستقلد مصر وتونس وبقية الدول الواقفة على قارعة طريق لا يؤدي إلى أي مكان.
سنقول لأجيال أخرى قادمة بعدنا إن المشاهد الهمجية التي نقترحها عليهم فرضت علينا لأننا صبمتنا على كثير من الهمجية التي تحكم حياتنا اليومية أصبحنا قادرين على أن نعيش مع الوحشية دون أي إشكال. سنقفل الكتاب الأخضر وكل ألوان الكتب الأخرى.
ماحاجتنا أصلا للكتب ونحن أناس لانقرأ, وسننزوي في الظل وسنعيد مشاهدة اللقطات إياها إلى آخر الأيام.
ملحوظة لاعلاقة لها بماسبق أكثر من أي وقت مضى علينا في المغرب أن نحافظ على هذه الخصوصية التي ميزتنا لحد الآن, أن نرعاها بكل الحدث الممكن, أن نزيل الشوائب التي تعلق بها,ةوأن نوضح المسار لبلدنا جيدا: الديمقراطية ولا شيء غير الديمقراطية.
الراغبون في العودة بنا إلى الوراء عليهم هم أن يتواروا إلى الخلف, وأن يتركوا هذا البلد يسير مصيره بيده لكي نتلافى مشاهد الرعب التي رأيناها يوم الخميس الفارط, فلاقبل لهذا البلد بقطرة دم واحدة تسيل من أجل المصالح الذاتية لرباعة من الأنانيين. اليوم فعلا لاحل: إما الديمقراطية الحقة الفعلية بدون أي تزوير, وإما الفناء.