توطئة : إذا كان من الصعب أن ينكر الناس قيمة الفلسفة و جدوائية التفكير الفلسفي ، فإنه من السهل أن يعاديها البعض إلى درجة محاربتها . و هذا الوضع المقلق و غير المريح ، من بين مبررات كثيرة تدفعنا إلى النظر و التأمل في سؤال : الحاجة إلى الفلسفة و التفكير الفلسفي . و هذا سؤال يطرح بإلحاح في ظل المتغيرات التي نعيشها . و الفلسفة كنمط من التفكير و التعقل و التحليل للظواهر و مساءلة القيم و النظر في منطق العلاقات لا يؤثر بما كتب أو ألف من مؤلفات في هذا المجال و لكن يؤثر بما ترك عندهم من أثر في السلوك و النظر ، بما أسس عنهم لنمط عيش ينسجم مع خصوصية الوجود الإنساني . إن حاجة الإنسان إلى الفلسفة ليست لتبرير نظريات معينة أو دحض أخرى. و كما جاء على لسان الأستاذ عبد السلام بن عبد العالي : لم تكن قيمة القول الفلسفي لتكمن في أن يطلع على معلومة ................و إنما في أن يكون المتلقي و يمرنه ................. بمعنى أن يعلمنا القول الفسلفي وعيا بأسلوب العيش و فن الحياة بمختلف تجلياتها و أبعادها ، و عندما تتخلى الفلسفة عن العناية بنا و تتوقف عن صناعتنا و تدبير أجسادنا و أذواقنا و أهوائنا أي أن تكون هي المؤسس لفن عيشنا و أكثر من ذلك فن العيش معا . و في ظل الحضور المتفاوت للأزمات على أكثر من صعيد : سياسة ، نقابة ، تربية ، اقتصاد ، قيم ..... أصبحنا نعيش على إيقاع الاضطراب و الارتجاج، لا على إيقاع السلام و الانسجام . و أصبحنا نرى أنماطا من المفكرين يؤثثون المشهد العام و يؤثرون في الناس ، و في هذا السياق ، ارتأيت أن أنظر في ثلاثة أنماط من المفكرين : الفيلسوف و الداعية ثم الخبير . بداية ، الفيلسوف غير الداعية أو الخبير ، قد تكون هناك قواسم مشتركة ، لكن في الجوهر و الأصل هناك الاختلاف ، فكيف ذلك ؟ اللوحة الأولى : البضاعة - الخبير : يملك خبرة تقنية ، أو معرفة متخصصة في مجال معين ، له مؤهلات معرفية يغلب عليها ما هو تقني ، و خبرته نظرية صرفة و عملية محضة . فأهل الخبرة هم أهل الاختصاص مثل الطبيب أو الخبير العسكري .... - الداعية : يملك معرفة أو تمثلات وجدانية عن الوجود ، أو تمثلات عن الحياة ، ليس كما هي بل كما يجب أن تكون ... ينطلق من مرجعيات أو تمثلات كبرى للحياة الإنسانية و يرغب في أن تمارس أو تتجسد على أرض الواقع لأنها في نظره الأمثل و الأصلح و غيرها الأسوأ و الأفسد . - الفيلسوف : مفكر محايد ، يفكر لحياة أفضل ، و و لوجود إنساني شامل متعدد و مختلف و كوني في نفس الوقت . لا يقصي و لا يدني ، صوته ليس دعوة لجهة فكرية معينة و ليس مروجا لبضاعة دينية أو سياسية أو نقابية أو ثقافية ..... معرفته ليست خاصة بأعطاب أو عطالة في جهاز معين .... اللوحة الثانية : المبادرة - الخبير : يتدخل حين يطلب منه ، المبادرة عند غيره ، و بالتالي ينجز وظيفته تحت الطلب . إن الخبير كتقني يقدم خدماته لأن النسق أو النظام التقني يقتضي ذلك النوع من المعرفة المحضة : حل الأعطاب و تسهيل خدمة الأجهزة ، الطبيب كتقني يتعامل مع الجسد كجهاز أو آلة في حالة المرض و يقدم معرفته و خبرته لذلك تحت الطلب - الداعية : دائم التدخل و لو لم يطلب منه ، شأنه شأن آلة لا تتوقف عن الاشتغال : يدعو إلى استهلاك بضاعته السياسية أو الدينية أو اللغوية أو الثقافية .... يروج مثل إشهاري لبضاعة مراهنا على استقطاب أكبر عدد ممكن من المستهلكين و تفضيل بضاعته ما أمكنه التفضيل .... - الفيلسوف : مبادرته ذاتية ، نابعة من أصل معرفته ، و نوعية تفكيره ، يفكر دون أن يطلب منه ، لا يعرض تفكيره تحت الطلب بل يفكر ي المتغيرات التي تميز الوجود الإنساني ، و القضايا التي يتناولها أكثر من أعطاب تقنية و أكبر من دعوى لمرجعية أو منظومة عقدية معينة . بل هي قضايا مركبة و معقدة تخص الوجود الإنساني في مختلف أبعاده و علاقاته، في أسئلته و هواجسه، في أحلامه و آلامه ... - اللوحة الثالثة : الأداتية - الخبير : تفكيره أداتي ، نشا حول جهاز معين ، كيف يشتغل ؟ و كيف يتعطل ؟ و ما هي البدائل الممكنة ؟ و كيف لمستعمل الجهاز أن يتجنب خسائر فادحة ؟ مجال اشتغال أو فعل الخبير هو المساحة التي تشغلها التقنية أو الجهاز في الحياة الاجتماعية. - الداعية: صوته أداة لغيره ، مروج لخطاب غيره ، أصوات غيره نشاز و صوته هو السليم . أو أصوات غيره مهموسة و صوته جهور . - الفيلسوف : صوته صوت العقل ، و خطابه لغة الحقيقة ، ليس تفكيره تفكيرا أداتيا ، بل تفكيره تنوير للعثمات ، و الدياجير التي تغطي جوانب كثيرة من الحياة الإنسانية . صوت الفيلسوف يصنع التوازن ، تفكيره تقريبي بين وجهات نظر مختلفة ( أستحضر هنا صوت الفيلسوف عبد الله العروي بخصوص مسألة التدريس بالدرجة المغربية ...) صوت الخبير هو صوت الآلة ، و صوت الداعية هو صوت الحق ، بينما صوت الفيلسوف هو صوت الحقيقة . - اللوحة الرابعة: الخطوة - الخبير : في فعله لا سب و لا شتم ، لا إيمان بالمختلف معه ، بل يخطو نحو عطب أو خلل آلي في نسق أو نظام معين . فعله في فعل الآلة و انفعاله في اشتغالها .... - الداعية : قد يخرج في خطابه عن قيم المروءة ، فيسب و يلعن ، و يخطئ و يصحح ، هو وثوقي في طرحه . الداعية قد يهاجم غيره بما يناسب و بما لا يناسب. يهجم كثيرا على الشخصي و الحميمي. الداعية يناقش الخطايا و لا يفسر بالعقل بل يعتمد في الغالب الوجدان و الانفعال ....فانفعالاته أكبر من أفعاله . -الفيلسوف : يفكر في المصائر و الصيرورات ، ينتقد الأفكار و الأطروحات في إطلاقيتها و عموميتها ، و يفضح بلاهتها ، يبين الغائب و المضمر في السطحي و العلني . يكشف الأوهام في زي الحقيقة . الفيلسوف ينتقد لينير، و الداعية يغضب ليعاقب بالمصير، و الخبير يفرح عندما يصلح . - اللوحة الخامسة : الانطلاق - الخبير : بداياته لأعطاب ، لتعثرات أجهزة أو آلات ، حضوره بحضور التقنية و غيابه بغيابها ، يفكر في التقنية كطبيعة ثانية بديلا عن الطبيعة الأولى . - الداعية : دائما بداياته أجوبة نهائية لأسئلة ممكنة ، و تصحيحا لأخطاء واردة ، و تعقيلا لأوهام . قد لا تهمه الطبيعة إلا إذا كانت مدخلا لدعوته .... - الفيلسوف : دائما بداياته أسئلة لأجوبة ممكنة ، ليس للنهائي مقعد في مسرحه ، يدافع عن الطبيعة في الإنسان ، و يهذب التوحش فيه ، و يمدنه ، الفيلسوف يبدع مفاهيم تحمل معان ، و الداعية يفرغ المفاهيم من المعاني . الفيلسوف لا يبحث عن الصواب و الخطأ ، بل يراهن على الخطأ في الصواب و الصواب في الخطأ . هذه بعض اللوحات التي عنت لنا و نحن نتأمل كلا من الفيلسوف و الخبير و الداعية ...كنماذج من المثقفين الذين يحتلون حيزا هاما في المشهد الثقافي المعاصر .