أرادوه أن يكون استحقاقا وطنيا على الأقل على مستوى الخطابات التي سبقته بأيام قليلة من كبار المسؤولين عن قطاع التربية والتكوين بالبلاد , فاتخذت إجراءات عملية انطلاقا من يومه الأول باشرت تفتيش التلاميذ بطرق أكثر صرامة وبوسائل إلكترونية لكشف مختلف أجهزة الاتصال التي يمكن أن تكون بحوزة المترشح ( هواتف , عدسات الربط , حواسيب ...) , كانت وسائل الكشف هاته أشبه بالعصي مخيفة حتى في شكلها يحملها أشخاص غرباء عن مراكز الامتحانات , يقتحمون أبواب المؤسسات في شكل لجان صغيرة لا تتجاوز شخصين , بواسطة تلك الأجهزة يتم تفتيش المترشح أو المترشحة تفتيشا دقيقا من رأسه حتى قدميه , مما يعني أن المترشح متهم بالغش والخداع فقط لأنه مترشح , ولا ترفع عنه التهمة حتى يتم تفتيشه ويثبت براءته دون الأخذ بعين الاعتبار التأثير النفسي السلبي لذلك على المترشح المحتاج أصلا للدعم بمختلف أشكاله . هذه الإجراءات الاحترازية لم تحل دون تسريب امتحان مادة الرياضيات عبر مواقع التواصل الاجتماعي كما يعرف الجميع , بأكثر من خمس ساعات قبل موعد تمريره بقاعات الامتحان , لتتأكد بالملموس براءة التلميذ في هذه النازلة براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام , ومعه مدراء مراكز الامتحان وهيئة التدريس , مما يعني أن الأمر يتعلق بأيدي خفية على أعلى مستوى سعت إلى خلق هذا الخرق والاضطرابات لحاجة في نفس يعقوب . والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح في مثل هذه الظروف الحساسة : ألا يمكن تجاوز هذه العقلية التقليدية في التسيير الإداري والتربوي ؟ حيث لا زال المركز متحكما بل ازداد تحكما على مستوى اقتراح البرامج , والامتحان الموحد الوطني وحتى الجهوي في تناقض واضح مع الكثير من الخطابات التربوية المؤسسة لمشروع المؤسسة الداعية إلى اللامركزية واللاتمركز على مستوى التدبير الإداري والتربوي في ميدان التربية والتكوين , حيث دعا الميثاق الوطني للتربية والتكوين في المجال الخامس المرتبط بالتسيير والتدبير , في الدعامة الخامسة عشرة (15 ) المادة 149 , إلى نهج أسلوبي اللامركزية واللاتمركز لتجاوز المركزية المفرطة في ميدان التربية والتكوين . الخطابات التربوية المنظمة لامتحانات البكالوريا الوطنية كلها تلح على ضرورة تكافؤ الفرص بين المترشحين , كيف يمكن تحقيق هذا المبدأ مع وجود فوارق شاسعة بين المترشحين تبعا لاختلاف المعطيات الجغرافية والمناخية والمادية والبشرية بين مناطق المملكة ؟ فشتان بين تلميذ يمتحن بمركز امتحان بنيابة الصخيرات ثمارة أو طنجة أو أصيلا مطلا على شاطئ البحر وبين آخر بنيابة تنغير أو زاكورة يمتحن تحت أسياط حرارة الشمس . لا مقارنة مع وجود هذه الفوارق الشاعة هذا دون أخذ بعين الاعتبار الوسائل المدرسية المتاحة للطرفين ومختلف ظروف التعليم بين مناطق المغرب النافع وغير النافع , ف " ليست الحكامة الجيدة في مجال التعليم مفهوما مجردا , فهي تعني هنا أن يكفل للأطفال ( المتعلمين ) , بشكل متساو وفي مختلف المناطق , الالتحاق بمدارس تحظى بتمويل جيد وتستجيب للاحتياجات المحلية , ويعمل فيها مدرسون مؤهلون ومتحمسون . وتعني أيضا , توزيع سلطة اتخاذ القرار على كافة مستويات النظام التعليمي , بدءا من الوزارة ووصولا إلى المدرسة والمجتمع المحلي , في إطار تدبير يراعي توازن التدخل بين المركزي والمحلي , وتكامل الأدوار فيما بينهما . " 1 . لقد أمست استقلالية المؤسسة التعليمية في إطار مشروع المؤسسة على مستوى التدبير المالي والتربوي ضرورة ملحة أكثر من أي وقت مضى , خاصة في ظل التطور التكنولوجي والمعلوماتي المتسارع الذي قرب المسافات بين قارات العالم فما بالك بمناطق البلد الواحد , ومن مظاهر استقلال المؤسسة التعليمية على المستوى التدبير التربوي أن تكون لها استقلالية في مجال التقويم والدعم واقتراح وتنظيم الامتحانات الإشهادية لمختلف أسلاكها التعليمية بما في ذلك مستويات السنة الأولى والثانية بكالوريا شأنها في ذلك شأن الكليات والمعاهد والمدارس العليا التابعة لجامعات المملكة , بذلك ستوفر الوزارة الوصية على نفسها مواردها المالية الهائلة التي تنفق في فترة تنظيم مختلف الامتحانات الإشهادية التي يشرف عليها المركز الوطني للتقويم والامتحانات . بأن تزود المؤسسات التعليمية بالموارد البشرية والوسائل التعليمية اللازمة التي تمكنها من أن تكون لها أقسام للامتحانات والتقويم والدعم , تراعي الفوارق والاحتياجات بين المتعلمين على صعيد المؤسسة التعليمية وعلى صعيد مناطق المملكة ضمانا لتكافؤ فرص حقيقي بين المتعلمين المحظوظين وبين نظرائهم المحتاجين لمختلف أشكال الدعم . فموضوع الامتحان الذي تم إلغاؤه بعد تسريبه صرفت أموال طائلة قبل أن يصل إلى أيدي المترشحين ولا داعي للإسهاب في مناقشة هذه المسألة لأن هدف هذه الكلمة المتواضعة ليس عتاب أو مساءلة جهة بعينها وإنما المساهمة في الدعوة إلى إرساء حكامة جيدة في التسيير الإداري والتربوي ببلادنا تعيد إلى المدرسة المغربية هيبتها وفعاليتها في تأهيل النشء , فلا يمكن محاربة الغش في الامتحانات بوسائل زجرية تسيء إلى كرامة المترشح , ولا ترضى عنها أسرة التعليم برمتها , وإنما من خلال استراتيجيات فعالة تغير التمثلات السلبية للمواطن المغربي حول المدرسة المغربية , بأن لا تبقى تلك المؤسسة التي تخرج كل سنة جيوشا من العاطلين المعرضين للانحراف بالشارع المغربي الذي لا يرحم , فتخليق الحياة التربوية رهين بتخليق مختلف ميادين الحياة ببلادنا اقتصاديا , اجتماعيا , وسياسيا ... فعلى الرغم من أن سلطات التربية تلح على مبدإ النجاح للجميع في كل الخطابات التربوية وبالمعدل الحقيقي للنجاح إلى أن واقع الحال لا زال يفرض نظام الكوطا خاصة على مستوى البكالوريا تحت ضغط الطاقة الاستيعابية المحدودة للجامعات المغربية والمعاهد العليا وهزالة الموارد المالية المرصودة للمنح التعليمية خاصة الجامعية . فنسبة النجاح على مستوى البكالوريا لا تتجاوز كل سنة ستين ( 60) بالمائة في أحسن الأحوال , وهنا سؤال آخر يفرض علينا نفسه : هل نسبة الأربعين ( 40 ) بالمائة من المترشحين الفاشلين فشلوا بسبب أخطائهم الفردية أم لأسباب موضوعية مرتبطة بالسياسة التعليمية وواقع الأمة عموما ؟ لقد آن الأوان أكثر من أي وقت مضى لإصلاح حقيقي على مستوى السياسة التعليمية ببلادنا وفق استراتيجيات فعالة تطرح السؤال الحقيقي لتعليم وتأهيل الإنسان المغربي , بعيدا عن سياسات التخبط والترقيع والخطابات المتناقضة , حينها سيقتنع المتعلم المغربي بضرورة اعتماده على نفسه لأنه مؤهل لذلك , مزود بالكفايات اللازمة للنجاح الحقيقي , وبالرؤية المتفائلة للمستقبل بعد حصوله على شهادة البكالوريا كحق مقدس لكل مواطن مغربي . هوامش : 1 هذه القولة مقتطفة من بحث بعنوان : " الإدارة التربوية بين هاجس الوصاية وطموح الاستقلالية " للباحث المصطفى عوام وقد ورد البحث بمجلة دفاتر التربية والتكوين الصادرة عن المجلس الأعلى للتربية والتكوين , العدد 11 يوليوز 2014 م