كثر الحديث فى الآونة الأخيرة، عن دور المجتمع المدنى ، فى تدبير الشأن المحلى. وهو حديث بديهى، اذا ما أمعنّا النظر فى طبيعة المرحلة، وما أفرزته من تعديلات دستورية على مجموعة من النصوص القانونية ، التى قنّنت ولأول مرة، بشكل شبه قاطع ، علاقة الفاعل المدنى بالمؤسسات المنتخبة والسلطات العمومية ،يقول المشرّع فى الفصل 12 "إن الجمعيات المهتمة بقضايا الشأن العام، والمنظمات غير الحكومية ،تُساهم فى اطار الديموقراطية التشاركية، فى اعداد قرارات ومشاريع لدى المؤسسات المنتخبة والسلطات العمومية ،وكذا فى تفعيلها وتقييمها". أما الفصل 15 فيرى "أن للمواطن الحق ،ضمن شروط وكيفيات يحددها قانون تنظيمى ، فى تقديم عرائض الى السلطات العمومية" والهدف منها حسب الفصل 139 "إدراج نقطة تدخُّل فى اختصاصه ضمن جدول اعماله" وهو مايعنى مباشرة، ان مكونات المجتمع المدنى لم تعد قوة اقتراحية فحسب، انما قوة "تشاركية" ،تستوجب على كافة المسؤولين اشراكها فى تدبير السياسات المحلية، وذلك بالعمل حسب الفصل 13 على" إحداث هيئات للتشاور والتحاور، واعداد البرامج فى افق تفعيلها على ارض الواقع بطرق ديموقراطية و بتفكير "جماعي" ينبع من صلب القاعدة وليس من القمة. الا أن الملاحظ ،أن هذه التعديلات الدستورية لم تُوازيها على مستوى العديد من الجماعات الترابية تعديلات فى "العقليات المُسيّرة" ،اذ تكشف مختلف التقارير غير الرسمية، ان اغلب هذه المؤسسات لازالت تسير على نفس المنوال القديم غيرُ عابئة بمستجدات المرحلة ،ولا أدل على ذلك ماتعيشه حاليا معظم المرافق الحساسة كالمستشفيات والمراكز الصحية التى تعج بمختلف قضايا الفساد والإرتشاء..، و بعض مخافر الشرطة والدرك التى تعمل بمبدأ "دهن السير اسير" دون احترام لأبسط بنود الحريات العامة.، فمظاهر التنكيل والتعذيب والإعتقالات التعسفية وإهدار كرامة الانسان واساليب التمييز بين فئات المجتمع كلها مجرد غيض من فيض مما تعيشه المؤسسات الأمنية .،هذا ناهيك عما تعرفه وكالات الماء والكهرباء والتعمير من فساد خانق أقحم المواطنين فى دوامة من الأزمات أفرزت بدورها ظواهر عدة، كالإنحراف الخلقى والسرقات والنهب بفعل مديونيات اثقلت كاهل ارباب الأسر فتخلّوا عن دورهم التربوى تغطية ًمنهم عن عجزهم المادى..،أما الجماعات المحلية التى هى موضوع حديثنا فحدث ولا حرج: فضعف الخدمات وسوء التسيير والتدبير ومظاهر الفساد والإرتشاء والإغتناء اللاشرعى ليست هى الأخرى سوى صور بسيطة لاختلالات عميقة يعيشها هذا القطاع فى غياب مراقبة صارمة او نتيجةً لأسلوب التساهل ، وغض الطرف عن العديد من المفسدين ممن عاتوا فى جماعتهم فسادا وتبوؤوا عوض الزنازن ، مسؤوليات فى غاية الأهمية واصبحنا بذلك وبفعل هذا التهجين الوظيفى،لا نستغرب، اذا ماأصبح الرصيد البنكى لرئيس جماعة محلية ،يقدر بالملايير وليس بالملايين بين الفينة والاخرى ودون ان يُسأل من أين لك هذا؟ ومن سخرية الأقدار ان فاتورات الهاتف النقال لبعض هؤلاء الذين تحملوا مسؤولية شأننا، قد تجاوزت فى كثير من الأحيان اضعاف مايتقضاه عمال اليد العاملة بالمؤسسة نفسها... والأكثر غرابة من ذلك انك ،اذا ماتحدث معهم عن مصالح البلاد والعباد تجدوهم فى غاية المسؤولية والجدية فى تصريف كلمات ثقيلة تستعصى عن الإدراك، كمفهوم المصلحة العامة وأهمية المواطن والمواطنة ، وحرمة المقدسات وغيرها من التخريجات اللفظية التى تضع" كفة المسؤولية" فوق كل اعتبار ..تخريجات ليس لها مكانا على ارض الواقع لكنها أفلحت فى ان تكون لهم يافطة وجدارا منيعا فى كثير من اللحظات ..واعتقد ان هذا النوع من الإستهتار، بمصالح الشعب وبمفهوم الوطن والمسؤولية الجادة ،يعتبر أعمق تجليات هذه الإختلالات التى تعيشها المرافق العمومية اليوم، فأغلب التقارير سواء الصادرة عن الإعلام او المؤسسات الرقابية ،تشير الى ان الكثير من الأصوات التى حاولت انتحال هذه الالفاظ سواء من قاموس الهيآت الحزبية ،او من الخطابات السامية ،هى التى عاتت فى الجماعات المحلية والمؤسسات العمومية فسادا ،و أثقلت كاهل الدولة بميزانيات وهمية.، وهو مايعنى ان تنزيل مقتضيات الدستور لا يتطلب الخطابات الفوقية وتلميع الواجهة ،انما يقتضى وبشكل مسؤول ،ممارسة فعلية على ارض الواقع ، ومتابعة آنية لتفعيل مساطيره، ولنا اليقين ان ذلك لن يتحقق دون اقتناع، مدبرى شؤوننا، بروحه ومضامينه والإمتثال لبنوده ومستجداته. حميد رزقى (سوق السبت) .