في الحلقة الرابعة من دراسته، يواصل الاستاذ عبد الله حمودي في تقكيك مبدأ الصورة وكيفية بنائها لدى المتصدين للدعوة في العالم الإسلامي بمختلف تلاوينهم، كما يتصدى لمفهوم الأصالة الذي تعتمد عليه التنظيمات التي تروم تقويم حال المسلمين المثير هو أن بناء الصورة في مجال الورع والتقوى والعلم لا يختلف اليوم عن بناء الصورة في مجالات أخرى كالبطولة الرياضية والنجومية السينمائية، والنجومية في ميادين الطرب والأناقة والطبخ إلى غير ذلك. والصورة كما هو معروف تُبنى بالاشتغال على المظهر، والصوت، وترتيب ملامح الجسم، واللباس والهندام. وينخرط في هذا السوق أيضا نجوم الترتيل، والسماع... أجل إن ذلك من صميم التشكيل الذي يتم انجازه بتعيين ما هو أصيل وما هو دخيل في نظر المختصين في عملية التشكيل، وحبك الصورة واللوحة حسب أهداف الإقناع والدعاية. أي إكراهات تسويق الصورة في الأسواق المحلية المتمفصلة مع الأسواق الكونية. لكل بضاعة أسواقها، فمثلا عندنا في المغرب سوق محلية متخصصة في ترويج الصوفيات، متمفصلة مع سوق عالمية لنفس البضاعة؛ وهذه الأسواق تتمفصل بدورها مع أسواق الترفيه والسياحة والمهرجانات... وقد تتمفصل بكيفية واضحة، مع سوق الدعايات السياسية أثناء الاستحقاقات الانتخابية أو الاستفتاءات مثلا. وهناك فيما يخص الدين والشريعة، أسواق التطرف، وأسواق الوسطية الإسلامية التي تروج لمنتجين كبار من أمثال الشيخ القرضاوي وغيره.ولست في حاجة للتذكير بأن ترويج هذه البضاعات يحتاج إلى سوق الإشهار بجميع مرافقة من راديو وتلفزيون وشبكات الانترنيت... الحاجة والرغبة مفهوم السوق هذا له فائدته في دراسة عملية بناء الصورة وترويجها. لكن في هذا المجال لا بد من تحديد. ذلك أن وازع السوق يتلخص في جلب المنفعة، وإشباع الحاجة، والربح. ومعروف أن مفهوم الحاجة مفهوم شائك لأن تعريفه يختلف عند الناس، ولأن علاقته بالرغبة هي علاقة معقدة. ذلك لأن الرغبة تُولِّد الرغبة إلى مالا نهاية. وبهذا تتجاوز حدود المنفعة المعقلنة لتربك العلاقة بين الاستقرار من جهة والطموح من جهة أخرى. من الطبيعي أن لا استقرار حقيقي في وضعية الفقر، مثلا، حيث يكون الطموح الدائم هو الخروج من الفقر والإحباط. ولكن الطموح الجارف وبلا حدود ظاهرة تستعصي على التحكم في نزواتها بواسطة العقل. لهذا فلابد من التمييز بين الحاجة والرغبة اللتين يؤطرهما منطق السوق إلى حد ما بوسيلتي الربح والخسارة من جهة، وبين الحاجة والرغبة اللتين تستمدان ديناميتهما من الطموح إلى الحكم والسيطرة. لهذا يختلف هذا النوع من الطموح عن الطموح الذي يحكمه منطق السوق. والفارق يظهر مثلا في نوعية تلك العملية الأساس، ألا وهي المزايدة. فمزايدات الدعوة-الدعاية، وبناء الصورة، على عكس المزايدات المحكومة بقانون السوق، ليست لها نهاية. تغذيها نزوعات تخرج عن دائرة التعايش وكثيرا ما تلامس منابع العنف في التركيبة الشخصية. فتكون مزايدات الدعوة-الدعاية على الفقه والفقهاء، مثلا في صورة الفقيه «المقاصدي» الجديد، الذي يحاول الاستيلاء على الفكر المقاصدي للأجيال السابقة (خاصة علال الفاسي فيما يخص مزايدات الرسوني)؛ وتكون المزايدات في التطرف، في صورة العالم الرافض بكل هوادة، والذي ينقل أحكام الحدود من الموسوعات ويطبقها على الناس من دون التروي والدراسة الدقيقة لكل نازلة. ولربما في هذا النوع من المزايدات تلبية وإشباع لنزوعات العنف والتسلط. ثم هناك المزايدة في الفتوى كأن يُفتي بزواج البيوفراند، أو بالرضاعة بين الرجال والنساء، داخل مؤسسات لسد طريق الزنا، أو بأشياء في منتهى الغرابة، كإقدام الزمزمي على نشر «فتوى» تحل الجماع مع الزوجة التي قضت. كيف سيكون الحال، مثلا، إن أتى أحدهم ب»فتوى» تجيز الجماع مع زوج قضى؟! الأصيل والدخيل وإن صحت نظرية بناء الصورة كما طبقتها على الدعوية وزعمائها، فإن التأصيل والأصالة كما أتوا به يصبح موضع تساؤل وارتياب عميقين. إن إشكالية الأصالة قديمة، تبنتها كل الحركات الدعوية في الماضي والحاضر. وجلي أن ثنائية الأصيل والدخيل تمثل النواة الصلبة التي تدور حولها رحى الدعوات التي تتصدر مهمة تمنحها لنفسها وتفرضها على المجتمعات، وهي مهمة تصحيح مسار المسلمين، أو محاربة الجاهلية، أو تقويم «الاعوجاج» إلى غير ذلك. لكن الأصالة شيء يصعب احتكاره، ذلك أنها تمثل العملة الصعبة المتداولة من طرف حركات متعددة التوجهات أذكر منها «الشببية الإسلامية»، «العدل والإحسان»، «التوحيد والإصلاح»، «حزب الأصالة والمعاصرة» (وهنا لا تهمني صلابة النواة أو هشاشتها) والحركات الأمازيغية والعروبية، والتوجهات السلفية القديمة والجديدة؛ وقد أحسب على الأصالة الأحزاب والأشخاص الذين ليس لهم موقف معلن فيما يخص الأصالة، لكنهم يكيفون برامجهم بكيفية من شأنها أن لا تجر عليهم (في نظرهم) ويلات التنكر للأصالة (وهذه حالة الاتحاد الاشتراكي، والتقدم والاشتراكية، وأحزاب أخرى). لهذا اقترنت نواة الأصالة بالفضاء السياسي والحركي بأكلمه. لهذا لا يملك الباحث إلا التساؤل حول معانيها ووظائفها. ومن تلك الوظائف بناء الصورة، ومواد ذلك البناء تُستخرج من منجم لا ينضب، تكدست في جوفه تراكمات الماضي: الدين، الشريعة، العلوم والآداب، وتقلبات المجموعات البشرية (أي التاريخ) والمنظمات الغارفة من ذلك الرصيد. وكلها تظهر مخدومة ومحبوكة في شكل خطابات، أي بواسطة اللغة. ولأن بناء الصورة يتم بموضعة ذلك الرصيد، كما بينت، أي بمنهجية مستقاة من العلوم والفنون الغربية، فإن أصالة الدعويين الكامنة في بناء صورتهم هي بالأساس عملة دخيلة، أو على الأقل قد يستحيل في كيميائها الفرز بين الأصيل والدخيل. لهذا فإن الأصالة، عملة غير قابلة للاحتكار، وإنها لعملة لصيقة بالأجساد لا يمكن أن تغطيها الأزياء والموضات الإسلامية، خاصة عند زعماء الدعوة والدعاية . والأمثلة عن تلك الأصالة المزعومة لا حصر لها. اكتفى هنا بمثال كاتب طلع علينا بالنشر المتواصل وفي جميع المواضيع المتعلقة بالإصلاح. في كل مقال ومقام يطلع علينا منظِّر حركة التوحيد والإصلاح في صورة الفقيه المتربع على كرسي التلقين، بالزي المغربي والقب واللحية المهذبة، في هندام الوقار كما كوَّنه التاريخ الثقافي المغربي. وقد يطلع علينا أيضا بالطاقية البيضاء. ومعلوم أن أحب الطواقي هي تلك التي تأتي من الديار السعودية، ومن الحج بالخصوص. وإن يتبرك جميع المسلمين ببركة الحرمين، فلابد من التذكير بأن بركة خدام الحرمين الشريفين الوهابية قد تسكن الطاقية المقتناة من الأسواق السعودية. وما هو أهم في هذا المقام أن الجلباب والقب كما الطاقية المستوردة يدخلان في تركيب الصورة بالتقنيات الغربية الدخيلة. وهذه الصورة تنفي في عمقها ثنائية الدخيل والأصيل كما يعتمدها الريسوني.