لقد تجاوز العديد من الحقوقيين والسياسيين والمثقفين الحدود الموضوعية والنزيهة في انتقادهم لحزب العدالة والتنمية بسبب مشروع قانون 22.20 سيء الذكر الذي جاء إلى المجلس الحكومي يوم 19 مارس محمولا على ظهر وزير العدل الحالي محمد بنعبد القادر، حيث جنح هذا النقد إلى السب والتهكم ووصل إلى أدنى درجات التبخيس، مع الإمعان في تحميل الحزب تحديدا، أو كادوا، وزر ذلك المشروع بشكل مبالغ فيه، حيث وصل إلى حد التجني والتعسف، وكأن القوم لا علم لهم بكيفية تدبير مثل هذه الملفات وصناعتها وترتيبها وإخراجها سياسيا ودستوريا وقانونيا، وتوظيفها إعلاميا، والأحرى أن يكونوا هم أدرى الناس بذلك، وأكثرهم موضوعية، وأحسنهم إنصافا، فربما عمى الأيديولوجية وأوحال السياسوية منعهم ذلك، فسقطوا فيما لا يجب أن يسقطوا فيه. لذلك سأضطر في هذا الموضوع أن أبين لهم إن كانوا يجهلون أو يتجاهلون كيف تشتغل ميكانيزمات الدولة وأدواتها في تدبير ملف مثل هذا وغيره من الملفات، على أمل أن يرجعوا عن غيهم إلى رشدهم. ربما سيعرف هذا الموضوع منسوبا مرتفعا من الوضوح والجرأة بعد أن ازداد التحرش السياسي بحزب العدالة والتنمية، وبلغ مستوى غير لائق من التبخيس وعدم الإنصاف، وخرج أصحابنا عن الضوابط الأخلاقية المؤطرة للاختلاف واحترام التعدد في الرأي ووجهات النظر. علما أنني لا أجد حرجا سياسيا وفكريا في انتقاد الحزب الذي أنتمي إليه كلما وجدت سببا أو مبررا لذلك، ولم ولن يكون انتمائي ذريعة من أجل تبني كل خياراته وتدابيره والتستر على ما أراه ضد مصلحة الشعب أو هويته، أو متعارضا مع قناعاتي الخاصة، وخير ذلك ما نشرته حول القانون الإطار المتعلق بالتعليم، والمادة 9 من قانون المالية الحالي، والرسالة المفتوحة التي سبق وأن وجهتها إلى رئيس الحكومة خلال شهر يونيو 2019 بسبب ما أسميته حينها بتماهي الحكومة مع الدولة في كل شيء، وذلك في إطار تقديم النصيحة والنقد البناء، معتبرا ذلك من أوجب الواجبات التي يجب أن يقوم به كل منتم صادق ومخلص للحزب، وكل متتبع موضوعي ونزيه، فالتملق للقادة ليس خلقي، والتسلق في المناصب والمسؤوليات ليست حرفتي، لذلك ارتضيت أن أحتفظ لنفسي بمسافة موضوعية ومساحة معقولة كي أبقى حرا في إبداء آرائي المستقلة كلما وجدت ضرورة لذلك، وهذا الموضوع يندرج بكل صدق وموضوعية ضمن هذا المنهج. أولا الفرق بين الدولة والحكومة والدولة العميقة: الحياة السياسية المغربية معقدة وصعبة جدا، شأنها شأن نظامها السياسي، فلا تجد لها منهجا واضحا، ولا منطقا سليما، وذلك بسبب كثرة وتداخل السلط والصلاحيات، وتعدد أصحاب القرار في شتى الميادين والمجالات، والأمر الذي يصيب الحياة السياسية بالارتباك والعشوائية والارتجال، وأحيانا يطغى عليها عنصر المفاجأة والمباغثة، كما وقع مع إضافة ساعة عن التوقيت العالمي في آخر لحظة، فلم يعرف المغاربة كيف ولماذا تم ذلك وبتلك الطريقة، وكذا إقرار العطلة المدرسية في ساعة متأخرة من الليل، وأخيرا إدراج مشروع قانون 22.20 في جدول أعمال المجلس الحكومي في آخر لحظة كذلك. 1/ الحكومة المغربية: صلاحيات محدودة وتركيبة معيقة. الصلاحيات: الحكومة في المغرب هي مجرد جهاز تنفيذي (الفصل 89)، ولا دخل لها في التوجهات الاستراتيجية الكبرى للمغرب التي تبقى من اختصاص المجلس الوزاري الذي يترأسه الملك، وتعمل على تنفيذ البرنامج الحكومي وعلى ضمان تنفيذ القانون، ورئيسها له سلطة تنظيمية فقط (الفصل 90)، وصلاحياتها مذكورة على سبيل الحصر في الفصل 92، وعدد الفصول التي تنظم عملها وعمل أعضاءها لا يتجاوز الثمانية. الذي يحكم عمل الحكومة المغربية في ظل دستور 2011 هي الفصول من 87 إلى 94 التي تتكلم عن تأليف الحكومة وطبيعة عملها واختصاصاتها، واختصاصات رئيس الحكومة، ومسؤولية الوزراء.. إلا أن جزءا من هذه الاختصاصات (وهي اختصاصات مهمة) تبقى مقيدة بمقتضيات الفصل 49 من الدستور المتعلق باختصاصات المجلس الوزاري الذي يرأسه الملك كما هو الشأن بالنسبة للفصلين 91 و92، الأمر الذي يحد بشكل واضح من صلاحياتها وصلاحيات رئيس الحكومة على وجه الخصوص. التركيبة: حسب الفصلين 47 و88 من الدستور فإن الملك هو الذي يعين أعضاء الحكومة باقتراح من رئيسها (الفصل 47)، وهذا الاقتراح غير ملزم للملك، وهو أدنى سلطة من سلطة التعيين التي يختص بها الملك باعتباره رئيسا للدولة (الفصل 42). مما يعني أن للملك سلطة تعيين وزراء خارج لائحة اقتراحات رئيس الحكومة، بل إن للملك سلطة رفض أو التحفظ على وزراء يقترحهم عليه. ومن جهة أخرى، وحسب مقتضيات الفصل 88، وكما هو معمول به من الناحية الواقعية والسياسية، يمكن للملك أن يعين وزراء تكنوقراط ليس لهم أي لو سياسي أو انتماء حزب، وهي الوضعية التي تطبع التشكيلة الحكومية الحالية. ويتضح من خلال تركيبة الحكومة وتشكيلتها أنها تتكون من 14 وزيرا لهم انتماء حزبي، و9 وزراء تكنوقراط، أي إن هذه حكومة عرفت مزيجا بين وزراء سياسيين وتكنوقراط بنسبة تقترب من الثلث لصالح التكنوقراط، الذين ليس لهم أي ولاء حزبي أو سياسي لأي حزب، ولا يخضعون لأي مساءلة أو محاسبة سياسية أو شعبية، إلا للجهة التي عينتهم. وهذه أولى نقطة ضعف هذه الحكومة ورئيسها، لأن من الناحية الواقعية والعملية الوزراء التكنوقراط لا يخضعون لا لرئاسته المباشرة ولا لسلطته السياسية أو التنظيمية. ونقطة الضعف الثانية لهذه الحكومة ولرئيسها والحزب الذي يقودها، هو ما تبقى من تشكيلتها السياسية، هذه التشكيلة العجيبة التي تتكون من 5 أحزاب سياسية، 7 وزراء من حزب العدالة والتنمية، 4 وزراء من حزب التجمع الوطني للأحرار، وزيرين من الحركة الشعبية، ووزير واحد لكل من حزب الاتحاد الدستوري وحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. ولا يخفى على أي متتبع أن أحزاب الأحرار والحركة الشعبية والدستوري كلها أحزاب إدارية من صنيعة المخزن، وتشتغل تحت إمرته وتعليماته، والتحق بهم مؤخرا الاتحاد الاشتراكي الذي تدحرج من كونه حزبا وطنيا إلى حزب إداري، وأصبح عبارة عن ملحقة تابعة للأحرار ويعيش تحت جناحه وفي ظل وصايته وحمايته. وعليه، ومن الناحية السياسية، فكل الأحزاب الإدارية المنتمية للحكومة غير تابعة للحكومة التي يرأسها الدكتور سعد الدين العثماني، ولا تخضع لرئاسة هذا الأخير، فهذه الأحزاب لا يجمعها مع حزب العدالة والتنمية لا برنامج سياسي ولا مشروع إصلاحي مشترك. ومن الناحية الواقعية والعددية، فإن حزب العدالة والتنمية بوزرائه السبعة يعتبر أقلية ضمن حكومة يشكل 16 وزيرا فيها كتلة واحدة في مواجهته، وهي أقوى معارضة من تلك المعارضة الممثلة في البرلمان وأعنفها. وإضافة على محدودية صلاحية الحكومة المغربية حسب ما هو واضح في الدستور، فإن طبيعة تركيبتها المتنوعة وغير المنسجمة سياسيا وفكريا وإيديولوجيا تجعل العمل ضمنها في منتهى التعقيد والارتباك، تصل في أحيان كثيرة إلى مستوى الاصطدام كأسلوب، والعرقلة كمنهج، والإعاقة كهدف. هذا فضلا عن أن بعض الوزارات المهمة خارج صلاحياتها التنظيمية وهي وزارات الخارجية والداخلية والأوقاف وإدارة الدفاع الوطني، بمعنى العلاقات الخارجية والمجال الأمني والحقل الديني كلها مجالات خارج صلاحيات واختصاصات الحكومة المغربية ومجلسها الحكومي، الأمر الذي يجعل عملها جزئيا وليس شموليا، محدودا وليس عاما، ضيقا وليس شاسعا، فيحد من فعاليتها ونجاعتها. ثانيا: الدولة المغربية: الذي يوضح الفرق بين جهازي الدولة والحكومة هو الفصلان 42 و47 من الدستور، الفصل 42 جاء في مستهله » الملك رئيس الدولة « ، والفصل 47 جاء فيه: » يعين الملك رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب »، وهذا تمييز دستوري ومؤسساتي له تداعيات سياسية وتدبيرية على الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وحسب الفصل 48 من الدستور فإن الملك هو الذي يرأس المجلس الوزاري، هذا المجلس الذي يتمتع بصلاحيات واسعة جدا، تنظيمية وتشريعية، وهو المختص في رسم التوجهات الاستراتيجية للدولة الخارجية والأمنية والاقتصادية .. والحكومة ملزمة بالعمل وفق تصور وتوجه المجلس الوزاري. فالملك هو القائد الأعلى للقوات المسلحة الملكية (الفصل 53)، وهو رئيس المجلس الأعلى للأمن (الفصل 54)، وهو من يعتمد السفراء (الفصل 55)، ويرأس المجلس الأعلى للسلطة القضائية (الفصل 57)، ويرأس المجلس العلمي الأعلى. وكما يتضح فإن الملك بصفته رئيس الدولة، وبحكم ترأسه لأهم المؤسسات الحيوية والرئيسية والاستراتيجية هو الحاكم الفعلي للمغرب من الناحيتين القانونية والواقية على حد سواء، بمساعدة مجموعة من المستشارين الذي يسميها البعض » حكومة الظل » أو » حكومة البلاط « ، وأن جهاز الحكومة ووزراءها مجرد مساعدين له، ولقد أقر الأستاذ عبد الإلاه ابن كيران بذلك ذات مرة عندما قال: » الملك هو الذي يحكم أما نحن فنساعده فقط « ، إلا أن هذا الحكم في الغالب منظم ومقنن دستوريا ومؤطر سياسيا، بصرف النظر عن تأثيره السلبي على الحكومة الذي يظهرها ضعيفة أحيانا كثيرة. ثالثا: الدولة العميقة (1) الدولة العميقة هي جهاز غير مرئي يمارس تأثيرا ونفوذا قويا على الحكومة السياسية، وقد تعمل هذه الأخيرة تحت إمرته أو بتعاون معه، وأحيانا يختلفان ويتصارعان. لا يخضع جهاز الدولة العميقة أو رجالاتها لأي رقابة برلمانية أو مساءلة قانونية أو متابعة قضائية، لأن الجهاز لم يؤسس وفق القانون، ورجالاتها لا يتحملون أي مسؤولية واضحة أو تابعة لمؤسسة قانونية. تعمل لفائدة الدولة العميقة مجموعة من الأذرع المؤثرة في المجتمع، أهمها القوة المالية التي تستثمر في القطاعات الاقتصادية الحيوية، والدراع الإعلامي بجميع أشكاله، والدراع الأمني، مع التحكم في مفاصيل الإدارة القريبة من المواطنين ومصالحهم، وقد يكون ضمن هذه التشكيلة وحسب الضرورة بعض جمعيات المجتمع المدني وبعض المثقفين والفنانين والزوايا الصوفية، وبعض الوزراء أنفسهم. للدولة العميقة بالمغرب طابع مدني، بخلاف مصر والجزائر، وهي واقع موضوعي متجذر في شرايين ومفاصيل الدولة، تشتغل بأدوات متعددة ومؤثرة، على رأسها: الإدارة بالتتبع والتجسس وتوجيه أو عرقلة عمل أي وزير، وذلك حسب الضرورة والحالة. الاقتصاد والمال، وذلك بصناعة نخبة من رجال الأعمال أو مساعدتهم ليكونوا موالين لها وتحت إمرتها وتصرفها، في إطار تبادل المصالح وتوفير الحماية الضريبية أو الأمنية والابتزاز مع الخضوع التام للدولة العميقة. الإعلام هي من القوى الضاربة التي تستعملها الدولة العميقة من أجل تلميع صورتها أو الإجهاز على معارضيها والتأثير الفكري والنفسي على الجماهير، وذلك بتشكيل صورة نمطية في ذهنه وفق رؤية الدولة العميقة. ومن خلال الإعلام يتم توظيف الفنانين والمثقفين والسياسيين من أجل التمكين لمشروعها وترسيخه ، وصناعات ولاءات وأتباع من مختلف الشرائح الاجتماعية لاستعمالهم عند الضرورة، مثل ومسيرة ولد زروال. الأمن هو آلية فعالة من أجل الضبط والتحكم في المواطن ، بعد أن يتم استغلاله اقتصاديا وتدجينه ثقافيا وإعلاميا، وأية محاولة من أجل النقد أو الاحتجاج أو المعارضة التي تتفتق عن فئة قليلة استعصت عن الاستغلال والتدجين ، يأتي الذراع الأمني من أجل ضبط الشارع باستعمال آلية المتابعات والمحاكمات والملاحقات تقوم بها أجهزة الأمن والمخابرات بالدرجة الأولى، مع جعل القضاء في خدمة هذه الإجراءات العقابية كما هو الشأن بالنسبة للمتابعات على خلفية ما ينشر في وسائل التواصل الاجتماعي مؤخرا. الدولة العميقة والحكومة المغربية: إن الدولة العميقة في المغرب مستمرة في وجودها محافظة على كيانها متمسكة بأجهزتها ومتماسكة بين أركانها، وإن تغيرت الوجوه واستبدلت الرجالات وتنوعت الأذرع والآليات. وتعاقب الحكومات يعني تعدد السياسات وتقلب المواقف وتحول الولاءات، وبالتالي تقع بعض الاحتكاكات والاصطدامات قد تكون خفيفة وعابرة، وقد تكون ثقيلة ومؤثرة ، وقد تصل إلى كونها ساحقة ماحقة حسب الأحوال والتوجهات والظروف والشخصيات. تعاني الحكومة المغربية من تغول الدولة العميقة وتوغلها في شرايين الدولة، التي تسعى إلى تطويع هذه الحكومة وتوظيفها وفق أجندتها وإخضاعها لسياستها وأولوياتها. لقد نبه ابن كيران في أحدى التجمعات إلى وجود دولتين بالمغرب، دولة رسمية يرأسها الملك محمد السادس وأخرى لا يعرف من أين تأتي تعييناتها وقراراتها. إلا أنه تراجع عن هذا الكلام في الملتقي الوطني 14 للشبيبة. ولكن يبقى ما قاله صحيحا وواقعيا. إن حضور الدولة العميقة ظهر من خلال مجموعة من القرارات أو التشريعات المصادمة لمصلحة المغاربة، من ضمنها مثلا إضافة ساعة على التوقيت العالمي في المغرب، هذا القرار الذي واجه اعتراضا وامتعاضا شعبيا، اتسم أيضا بفجائيته وخروجه في آخر لحظة في اجتماع حكومي استثنائي، وكذلك القانون الإطار المتعلق بتدريس اللغات في التعليم، وكذا تمرير المادة 9 من قانون المالية الذي ووجه برفض شعبي وحقوقي تخللته احتجاجات ووقفات وندوات وبيانات .. ورغم ذلك تم عرضه وإقراره من خلال تصويت قسري في البرلمان. مشروع قانون 22.20، السياق والخلفيات: وبالتالي إن مشروع قانون 22.20 الذي جيء به عن طريق وزير العدل الاتحادي محمد بنعبد القادر لم يخرج أن تدبير رجالات الدولة العميقة ومنهجها وأهدافها غير المعلنة، ويتضح ذلك من خلال التتبع الكرونولوجي لهذا المشروع. تحدثت بعض الجرائد المغربية أن المشروع صيغ في عهد محمد أوجار وزير العدل السابق على إثر المقاطعة الشعبية التي همت بعض الشركات، والتي كان لوسائل التواصل الاجتماعي دور كبير في نجاحها خلال سنة 2018. إلا أنه لم يتم إخراجه آنذاك لأسباب مجهولة. وبعد تعيين محمد بنعبد القادر بخمسة أشهر، عهد إليه بإخراج هذا المشروع الذي كان معدا سلفا، ولكن قبل ذلك كانت هناك ترتيبات ممهدة لهذه العملية: أولها بتاريخ 12 مارس حيث انعقد اجتماع ضم قيادات الاتحاد الاشتراكي والتجمع الوطني للأحرار بحضور بنعبد القادر وزير العدل وعزيز أخنوش أكبر المتضررين من المقاطعة. وفي اليوم الموالي 13 مارس أصدر حزب الاتحاد الاشتراكي بلاغا في صفحته الرسمية يعلن فيه إلى جانب حزب التجمع الوطني للأحرار عن دعمهما لوتيرة إصلاح منظومة العدالة التي يقودها الاتحادي بنعبد القادر، علما أن هذا الأخير لم تمر على تعيينه سوى خمسة أشهر، وهي مدة غير كافية لفتح ورش إصلاح منظومة العدالة. و13 مارس هو اليوم الذي تم الإعلان فيه عن جدول أعمال مجلس الحكومة، وكان خاليا من نقطة مشروع قانون 22.20. يوم 18 مارس سيراسل الأمين العام للحكومة الوزراء يخبرهم بإضافة نقطة إلى جدول أعمال مجلس الحكومة المنعقد في اليوم الموالي 19 مارس، متعلقة بمشروع قانون 22.20، والغريب في الأمر أن السادة الوزراء سيتوصلون بهذا المشروع لاحقا وسيقدمه وزير العدل حسب المراسلة، وعلى المجلس الحكومي أن يصادق عليه يوم عرضه عليهم، أي يوم 19 مارس، يوما واحدا على دخول حالة الطوارئ حيز التنفيذ. يوم 19 مارس تم تأجيل مشروعي قانون؛ الأول متعلق بالهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتهما، وهو مشروع كما هو واضح يتعلق بمحاربة الفساد، والثاني يهم إحداث وتنظيم مؤسسة النهوض بالأعمال الاجتماعية لفائدة الموظفين والأعوان العاملين بالقطاع الوزاري المكلف بالصيد البحري، وهو مشروع اجتماعي بامتياز، في حين تمت المصادقة على مشروع قانون وضع في آخر لحظة. هذا المشروع وقع في مجموعة من الخروقات القانونية والمسطرية مثل: الخرق الأول: مخالفة صريحة للمادة 10 من القانون 31.13 والتي تلزم المؤسسات والهيئات بنشر الحد الأقصى من المعلومات، وأهمها النصوص التشريعية ومشاريع القوانين وهي التي تهمنا في هذه النازلة. الخرق الثاني: مخالفة واضحة للقانون التنظيمي رقم 065.13 المتعلق بتنظيم وتسيير أشغال الحكومة والوضع القانوني لأعضائها، خاصة المادة 13 التي يتولى من خلالها الأمين العام للحكومة، قبل انعقاد مجلس الحكومة، توزيع مشاريع النصوص التشريعية والتنظيمية … على أعضاء الحكومة داخل أجل يحدد بنص تنظيمي. الخرق الثالث: ومخالف للمادة 19 التي تفرض أن ترفق مشاريع القوانين الرامية إلى سن تشريع جديد أو مراجعة تشريع قائم بدراسة حول آثارها، و المشروع كما هو معلوم لم يخضع لأي دراسة تبين الآثار المحتملة في حالة المصادقة عليه وتنفيذه، بل تم تهريبه وإخفاؤه بطريقة إخفاء الممنوعات أو الوثائق المهربة. الخرق الرابع: وجاء المشروع كذلك مخالفا للمادة 20 من القانون 065.13 التي تحدد كيفية إعداد مشاريع النصوص التشريعية والتنظيمية من قبل السلطات الحكومية المعنية وآجال إعدادها وعرضها ومسطرة المصادقة… وباختصار شديد، فإن أصحاب هذا المشروع، المعروفين وغير المعروفين قاموا بخرق كل المقتضيات الدستورية والقوانين التنظيمية والمساطر التشريعية ذات الصلة، وداسوا عليها بالأقدام خدمة لأصحاب الشركات الكبرى المتضررة من المقاطعة الشعبية. إن هذه الممارسات التي لا تلتفت لا إلى قانون ولا إلى حقوق هي من اختصاص بعض رجالات الدولة العميقة الذين يشتغلون خارج المؤسسات والقانون، بل يستعملون وسائل الضغط والابتزاز والإغراء لحمل المسؤولين، سواء كانوا حكوميين أو سياسيين أو غيرهم على تنفيذ بعض أوامرهم، أو تمرير قرارات أو إجراءات أو قوانين ذات طابع فئوي أو تقلص من الحريات… إن طريقة دس المشروع في جدول أعمال المجلس الحكومي في آخر لحظة، وتهريبه من المساطير العادية، وتغييبه عن النقاش العمومي، وتأجيل مشروعين مهمين في جدول الأعمال لليوم ذاته، والمصادقة عليه دون دراسة أو مناقشة.. كل ذلك يؤكد ضلوع جهة ما في هذا المسلك غير القانوني، وهو مفروض بطريقة ما، مازلنا لا نعرف عنها شيئا. هي خطة مدروسة بعناية فائقة، تم خلالها تسخير الوزير العدل الجديد لحمل المشروع إلى المجلس الحكومي وتكليف الأمين العام للحكومة بإخبار الوزراء، بأنهم سيتوصلون به لاحقا، وسيقدمه وزير العدل، مغتنمين انشغال الحكومة خاصة وزراء العدالة والتنمية بتدبير ملف وباء كورونا، الذين وجهوا كل عنايتهم وتركيزهم في كيفية التصدي للوباء. على أن يتم الدفاع عنه من قبل الوزراء الذين ينضوون تحت مظلة الدولة العميقة، وتتم المصادقة عليه بأغلبية أعضاء المجلس الحكومي (16) الذي يشكلون فيه وزراء العدالة والتنمية أقلية (7). أين أخطأ وزراء العدالة والتنمية؟ لقد انتهج حزب العدالة والتنمية في عمله السياسي منهجا راقيا ومتحضرا، ذلك بالحرص على المشاركة السياسية في إطار الانخراط المسؤول والإيجابي والنزيه في كل العمليات الانتخابية، مع الاعتراف بالمؤسسات الدستورية القائمة، والحفاظ على الاستقرار السياسي والاجتماعي، وقدم في سبيل ذلك العديد من التضحيات والتنازلات الأليمة والقاسية. ورغم أن الحزب راكم تجربة مهمة في العمل السياسي من خلال مشاركاته المتواصلة منذ سنة 1997 عبر المشاركة في الانتخابات البرلمانية والجماعية، وترؤسه لحكومتين متتالتين، ومشاركة العديد من وزراءه في الحكومتين، فما يزال وفيا لأسلوب سياسي ربما أصبح متجاوزا في ظل تجدد معطيات تهم العلاقات الحزبية والتوازنات السياسية ومستوى وعي الشعب، وفي هذه النازلة (مشروع قانون 22.20) في نظري ارتكب خطأين تكتيكين ما كان ليقع فيهما: الأول: الإفراط في الثقة وحسن الظن في التعامل مع بعض مسؤولي الدولة ووزراء الضفة الأخرى الذين لا ولاء لهم لا للحكومة ولا لبرنامجها ولا للشعب، بل ولاؤهم موجه حصرا لأولياء نعمتهم ومصالحهم الشخصية، لذلك فإن هؤلاء لا يجدون حرجا في خداع وزراء العدالة والتنمية وإعطائهم وعودا كاذبة أو تطمينات خادعة، من قبيل تزويدهم ببعض المعطيات الكاذبة أو غير الكاملة تهم مجالات متعددة، وذلك عن طريق موظفي الدولة العميقة التي يقدمونهم على أساس أنهم خبراء في المجال المستهدف بقرار أو إجراء أو قانون. حتى يجد وزراء العدالة والتنمية أنفسهم في مأزق سياسي، أو في مواجهة مدافع الرأي العام التي تنهال عليهم بقذائف النقد والسب والتهكم. لذلك على وزراء العدالة والتنمية أن يتحلوا بالمزيد من النباهة واليقظة، وأن يستحضروا قولة عمر رضي الله عنه: « لست بالخب ولا الخب يخدعني »، وعليهم أن يكونوا كما قال ابن القيم عنه: « كان عمر أعقل من أن يخدع (بضم الياء)، وأروع من أن يخدع (بفتح الياء) »، لا يخدعون الناس ولا يخدعون من طرف بعض المسؤولين. الثاني: انخفاض قدراتهم التفاوضية أمام بعض الجهات أو المسؤولين (وهنا لا أعمم طبعا)، ومن أمثلة ذلك، فرض إضافة ساعة عن التوقيت العالمي، قانون الإطار، المادة 9 من قانون المالية، عدم استطاعتهم تسقيف أثمنة الوقود.. وغير ذلك من الأمور التي لا يتسع المجال لسردها. وإني أعتقد أن هذا الانخفاض هو اختيار أكثر منه اضطرار من طرف وزراء العدالة والتنمية، في إطار الحفاظ على الاستقرار وعدم الدخول في توترات وتشنجات سياسية قد تكون مكلفة للحزب والوطن، إذا استحضرنا اختلال موازين القوة لفائدة الدولة العميقة ورجالاتها. هذا لا يعني أن الحزب أضحى حزبا مائعا ودون هوية وخال الوفاض من أي إنجاز، بل على العكس من ذلك كله، فلقد حقق في سنوات قليلة ما عجز عن تحقيقه جل الحكومات السابقة، وحقق انسيابا سلسا في جل مؤسسات الدولة، وراكم تجربة مهمة، وأهم شيء، كسب شعبية منقطعة النظير رغم حملة المضايقات والعراقيل الممنهجة ذات البعد الأمني أو القضائي أو الإعلامي، والضرب تحت الحزام الذي يتعرض له وزراؤه، والملاحقات والمتابعات التي تستهدف مناضليه في ربوع البلاد. خاتمة: فمهما سجلنا من تحفظات على حزب العدالة والتنمية، ومن مؤاخذات على بعض أو كل وزراءه، فلا ينكر جاحد أن هذا الحزب قدم أعمالا جليلة لهذا الوطن، وحقق إنجازات كبيرة مقارنة مع من سبقه من الأحزاب والحكومات، وقدم تضحيات جمى وتنازلات كبيرة من أجل الحفاظ على أمن واستقرار الوطن، كل ذلك يجعله مرشحا أكثر من غيره من الأحزاب الحالية من أجل مواصلة درب الإصلاح ومحاربة الفساد والاستبداد. لذلك على الحزب أن يضع نصب عينيه الدعوة إلى إصلاحات سياسية ودستورية عميقة توسع من صلاحيات الجهاز الحكومي وتعطي معنى للعمل السياسي، وتفسح المجال للمزيد من الحرية والديمقراطية. وضرورة أن تشمل هذه الإصلاحات: كل القوانين الانتخابية (اللوائح الانتخابية، التقطيع، الرفع من العتبة..). توسيع مجال الحريات وتقوية رقابة المجتمع المدني. الإسراع بسن قانون تجريم الإثراء غير المشروع. سن الضريبة على الثروة. محاربة الريع الاقتصادي وتقنين المأذونيات. تفعيل مجلس المنافسة. عندما يمتلك الحزب الشجاعة والجرأة لتحقيق هذه الأهداف، فتلقائيا سيلتف الشعب حوله، هو تحد كبير، ولكن لا مفر منه.