أ بدا مرهقا وهو يجر رجليه على أنغام معزوفة أداجيو فور سترينغ الحزينة (Adagio for Strings). ركب سيارته الفارهة وحبات العرق تتقطر فوق جبينه بالرغم من الرياح الباردة الآتية من « لاسييرا ». بدأت الدموع تنهمر من مقلتيه، وسرعان ما تحولت الى شهيق.كان يومه قاسيا، وصورة العجوز التي رفضت استعمال آلة التنفس الإصطناعية لا تفارقه، قالت أن أصغرها سنا أولى بها. عشرات من الرجال والنساء انضافوا اليوم إلى لائحة آلاف ضحايا « فيروس الكورونا ». منذ أن تفشى الوباء وهو يقضي نوبات طويلة في المستشفى، وأبناؤه يفتقدونه. تذكر عندما اشترى تلك السيارة، وكان ذلك حديثا، وذلك الإحساس بالفخر الذي انتابه حينها، فشعر بالخجل وهز رأسه وهو يتمتم: تفاهات …تفاهات!! توسد مقود سيارته ورجعت به الذاكرة الى صباه في بلدته الصغيرة حيث ولد وترعرع. إجتاحه الحنين الى تلك الأيام التي بدت له كلوحة فنية لربيع مزهر ، بينما بدت له اللحظة كسماء مدريد؛ رمادية تميل إلى السواد. فجأة غمره الشوق لرؤية أمه وإخوته الذين لم يرهم منذ شهور. اللهث وراء ما كان يعتقده نجاحا أبعده عنهم. شعر بالخزي وهو يدرك أن لا مال ولا جاه يغنيه عن دفء ذويه ومن يحب… أضحت عيناه تنغلقان، فرأى نفسه وهو طفل يجاري أقرانه بين أشجار الزيتون. انتفض من غفوته على دقات في زجاج باب سيارته. بعد لحظات استعاد فيها وعيه بالزمان والمكان أنزل الزجاج، وكان الطارق شرطيا من المجموعة التي تحرس المستشفى…. هل انت بخير يا دكتور؟ نعم انا بخير… لك الله يا دكتور… لنا الله …لنا الله ايها الرجل الطيب. أشعل محرك سيارته وقاد ببطء على وقع رذاذ المطر، وتمتم مقولة كان قد سمعها كثيرا من أبيه: « من لم يتعلم من أخطائه سيظل مخطئا الى الأبد »