لا توجد الأشباح سوى في القصص، ولكن في مقبرة النجف جنوب العاصمة العراقيةبغداد، يتحدث القائمون على حفر القبور عن مخلوق غريب مرعب يظهر في المقبرة، أطلقوا عليه اسم « الطنطل ». وذكر هؤلاء العاملون بمقبرة « وادي السلام » أن هذا الشبح جرح وأرعب البعض منهم. وقال الكاتب كوينتين مولر -في تقرير نشرته صحيفة « لاكروا » الفرنسية- إن مقبرة « وادي السلام » تشهد زيارات يومية لأشخاص فقدوا ذويهم، حيث تكتظ القبور بصور آلاف الأطفال والشباب والعسكريين والشيوخ، حيث قُتلوا كلهم إما من أجل الدفاع عن العراق أو قناعاتهم الدينية أو في حوادث عرضية. وهم أم حقيقة؟ وذكر الكاتب أن « وادي السلام » تعتبر أكبر مقبرة في العالم بمساحة تبلغ ستة كيلومترات مربعة، وهي عبارة عن مدينة أموات داخل مدينة النجف، الواقعة على بعد مئتي كيلومتر جنوببغداد، التي يزورها آلاف الشيعة سنويا. واستحقت هذه المدينة الصامتة لنحو 1500 عام لقب « وادي السلام »، قبل أن تكسر إحدى القصص المرعبة هذا الصمت، وهي ظهور وحش، أو شبح مراوغ ومفزع يتجول بين القبور، مما أثار الرعب لدى حفاري القبور، الأمر الذي دفع بالكثيرين إلى التساؤل: هل هو وهم أم حقيقة؟ وأشار إلى أن هذا الوحش يجسد واقع البلاد المعاصر الذي أضحى مسرحا للقتال والدم والعمليات التفجيرية. فمنذ عام 2003، دفن العراق تحت ترابه حوالي 207 آلاف مدني سقطوا برصاص البنادق أو بالقنابل، بعدد بلغ 13 ألف قتيل مدني سنويا. وتحتضن مقبرة « وادي السلام » -التي يرقد فيها حوالي خمسة ملايين شخص- قرابة خمسين ألف جثة سنويا، أي ما يعادل أربعة آلاف جثة في غضون شهر واحد. وخلال الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية (ما بين 2014-2017) كان حفارو القبور في النجف يدفنون جثث حوالي مئة مجند يوميا، قُتلوا كلهم من أجل الحصول على أجر شهري يقدر بين ثلاثمئة وأربعمئة يورو. ونقل الكاتب على لسان هاني أبو غنيم، أحد حفاري القبور الذي يبلغ من العمر 61 عاما، قوله « هناك نوعان من الكائنات الحية: الناس وما يعرف بالطنطل (وحش المقبرة) الذي يخرج في الليل ويتجسد في أشكال مختلفة ». وتحدث حفارو قبور آخرون عن وفاة أربعة من زملائهم عام 2018 في ظروف غامضة خلال ممارسة أعمالهم. في مطلع ديسمبر/كانون الأول 2016 -يذكر حيدر، وهو أحد حفاري القبور بوادي السلام- أنه عندما كان بصدد حفر قبر، لاحظ بطرف عينيه ظلا خلف ظهره قبل أن يتلقى ضربة قوية أسقطته بالحفرة وأفقدته الوعي. وأكد أن « الشبح اقتحم جسدي بداية من رأسي قبل أن ينتشر في كامل جسدي، وعندما خرج، سقطتُ مباشرة. بعد ذلك، أحسست بتشنجات في فكي أشبه بشلل من ثم فقدت الوعي ». وأشار الكاتب إلى أن سيدة مغطاة بحجاب أسود أدلت بدورها بشهادتها وبدأت تتحدث وهي ترتجف عن ابنها الذي كان يعمل بالمقبرة، قالت « لقد خسر ابني كل شيء، عمله وزوجته.. وليس له مال لشراء الحليب لأطفاله أو ليدفع إيجار منزله ». وفي السياق ذاته، خضع دماغ الابن لتصوير بالأشعة. وبعد التشخيص، لم يسجل الأطباء أية ملاحظات حول إمكانية تعرضه لسكتة دماغية، ولكنهم لم ينكروا تعرضه لضربة قوية استوجبت تدخلا طبيا. وعلقت والدته « الطنطل كلفنا ثلاثين ألف دولار لعلاج ابني، كما استشار ابني العديد من رجال الدين ليساعدوه في التخلص من هذا الوحش الذي ما زال يسكن جسده ». ونقل الكاتب عن الابن قوله « ما زلت أشعر بأن الوحش يسكن الجزء الأيمن من دماغي، وما زلت أتألم على الرغم من بعض التحسن، ويخالجني دائما ذلك السؤال: هل سأبقى دائما على هذه الحال؟ علاوة على ذلك، غالبا ما أشاهد كوابيس ». كما تدخل والده مؤكدا أنه « بعد هذا الحادث، لن نسمح له بالعودة إلى العمل في المقبرة من جديد وإلا سنفقده نهائيا ». وشدد الابن على رأي والده « لا يمكنني فعلا العودة للمقبرة من جديد لأنني أشعر بالخوف من أن ينهي هذا الوحش حياتي، لقد أضحى العمل كحفار قبور أمرا خطيرا ». أما حيدر فأكد بأنه لم يفكر في زيارة طبيب نفسي رغم ما تعرض له من متاعب وصدمات، فالأمراض العقلية تسبب الإحراج في العراق، خاصة وأن 65% من العراقيين يعتبرون هذا النوع من الأمراض دليلا على « ضعف الشخصية ». مرتضى يرى أن ما يعرف بالطنطل سكن جثة إحدى النساء (الصحافة الفرنسية) الإصابة بالجنون نقل الكاتب عن عامل آخر بالمقبرة، وهو مرتضى جواد، قوله « في أحد الأيام، ومع بداية بزوغ النهار، وضعت جثة امرأة في القبر، وبعد أن بدأت أهم بتحريك رأسي تجاه القبلة، صفعتني بيدها، ولا أعرف كيف حصل ذلك في وقت كانت يديها مكبلة تحت الكفن. وما زال ذلك يثير الرعب في نفسي ». بات مرتضى مقتنعا بأن الوحش سكن جثة المرأة حتى يُهدده. وفي تلك الليلة، أحس كما لو أنه مشلول لكنه لم يصرخ ولم يعبر عما يخالجه لأن أسرة المتوفاة كانت موجودة، ولا يريد أن يعتبره الحاضرون مجنونا. وعند عودته أغلق باب غرفته وأسدل الستائر واستسلم لمخاوفه من الطنطل، ونام وهو خائف من الإصابة بالجنون. وقال مرتضى قبل أن يظهر ندوبا صغيرة كثيرة موجودة على ذراعه « لطالما أحرقت ذراعي بالسجائر. حاولت الانتحار عدة مرات، لكن والدتي كانت تتدخل كل مرة لإنقاذي ». على غرار حيدر، انعزل مرتضى. ويتهمه أصدقاؤه باختراع القصة ويعتبره آخرون مضطربا نفسيا. وكان هذا الشاب من بين حفاري القبور القلائل الذين تحدثوا عن تجربتهم في وقت لم يتجرأ فيه آخرون على ذلك، خوفا من خسارة كل شيء ف « لقد حدث ذلك مع زملائي أيضًا. وتوقف الكثيرون عن ممارسة هذه المهنة، نظرا لأنهم غير قادرين نفسيا على مقاومة ما حدث. وبمجرد أن يشهد بعضهم على هذه الظواهر الخارقة، يتركون المهنة ولا تطأ أقدامهم المقبرة مجددا ». يتلو آيات من القرآن الكريم عند قبر أحد أفراد أسرته (رويترز) تحدي الخوف ويشير الكاتب إلى أن مهنة حفار القبور تنتقل من الأب إلى الابن في أسرة مرتضى، ولكن ذلك قد يتوقف بعد التجربة التي عاشها. وأورد والد مرتضى الذي انضم إلى الحديث « لقد حذّرني والدي وعمي من هذه الحوادث الغريبة قبل البدء في ممارسة هذه المهنة. لقد نصحوني بالحذر ». كما يوضح مرتضى أن لا مشكلة لديه في رؤية جثة. فقد انخرط في عالم الموتى منذ أن كان في العاشرة من عمره. وأشار إلى أنه تدرب في البداية مع والده، وبعد ذلك، بدأ بالعمل بمفرده. وفي هذه الليلة، سيُواصل مرتضى تقليد الأسرة بعد خمسة أعوام من الانقطاع. وفي هذا الإطار، قال « كنت أقيم في مستشفى أميركي للأمراض النفسية في لبنان. ولقد كلفنا ذلك إجمالا سبعة آلاف دولار، لكنني لن أخاف بعد الآن. لقد ساعدني الطبيب في التخلص من اكتئابي، ومن هذه الذكرى ومخاوفي المرتبطة بها ». منذ ذلك الحين، تمكن مرتضى من الزواج بعد الحصول على شهادة طبية تثبت أنه لا يعاني من أي مشكلة نفسية. أما بخصوص الشبح، فأكد « الحمد لله، بات لدي إيمان أكبر اليوم. ليس لدي خيار، ينبغي علي المواصلة في السير قدما من أجل عائلتي ». ويكشف اضطرار مرتضى إلى السفر إلى لبنان لتلقي العلاج حيث تعاني بلاده من نقص شديد في مجال العلاج النفسي. ووفقًا لمنظمة « أطباء بلا حدود » وحتى عام 2012، يوجد بالعراق أربعة مختصين في علم النفس فقط لكل مليون نسمة، كما تعتبر عملية توفير الرعاية كارثية أيضًا. ولا يبدو أحمد خالد (المسؤول عن قسم الطوارئ بأحد المستشفيات) متفائلا فيما يتعلق بضحايا « الطنطل » حيث يؤكد أن « السكان لديهم فكرة سيئة بشكل عام عن الأمراض العقلية ويفتقرون إلى المعرفة الكافية. فالمريض الذي يسعى للحصول على الرعاية يواجه خطر الوقوع ضحية وصم اجتماعي ». من جانبه، كشف حفار القبور هاني أبو غنيم الدليل على ذلك. فقد انطلق سائرا بين القبور أسفل ضريح الإمام علي، في أغلى المناطق بالمقبرة. إثر ذلك، توقف فجأة وفتح منفذ سرداب صغير وانحنى على ركبتيه ونزل السلالم وغرق في ظلام كثيف. وقال « لا تقلق، لا يخرج الوحش سوى في الليل ». وبعد النزول ستة أقدام تحت الأرض، أضاء بعض الشموع، ليظهر رجل أصلع، ذو شارب كثيف، يرتدي ربطة عنق، من الظلام. أفاد هاني بثقة بأنه شاهد « الطنطل » عدة مرات منذ أن بدأ مزاولة هذه المهنة قبل 11 عاما. ونظرًا لحكمته وتجربته مع هذا المخلوق الغريب، يستشيره أحيانا حفارو القبور الشبان. بعد ذلك، ومن مكان بعيد عن المقبرة، يذهب لملء المياه من بحر النجف. وبهذا السياق، قال « أرشهم بالسائل لأشفيهم من جروحهم. كما يتعين عليهم كذلك شرب القليل منه ». الرئة الاقتصادية ونقل الكاتب وجهة نظر الباحثة بالمعهد الفرنسي للشرق الأدنى جيرالدين شاتيلارد التي قالت فيها إنه « لن يكون للنجف وجود دون المقبرة » فهي تعد رئتها الاقتصادية. وتصر الباحثة على أن مهن الموت « ليست هامشية » بل هي « قلب اقتصاد النجف وتنظيمها الاجتماعي ». في المقابل، لا يمنع التطبيع مع الموت تهميش حفاري القبور الذين يسكنهم الطنطل. المصدر : الجزيرة