أقول دائما وأمارسها: لست متدينا ولكني متعبد...التدين يعني الانتماء لطقوسية معينة يصبح فيها الشكل أهم من الجوهر، والتعبد يعني تفجير الطاقة الوجدانية الروحية كمكون. كمكون أساسي من مكونات الذات الإنسانية منذ ظهور الإنسان العارف homos-sapiens التعبد يوحد الكائنات ويوحد العابد بالمعبود بدون وسائط ويوحد الإنسان بالطبيعة وتصبح الرموز فاقدة لكل معنى، والفلاسفة المتصوفون خير من عبَّر عن ذلك فلسفة أو شعرا أو شطحات ابن عربي...الحلاج...الجنيد...ذو النون المصري....وغيرهم.....المتعبد لن يكون أبدا ضد الدين....بل هو مع كل الديانات. التدين هو في الأصل تعبد بطقوس معينة تتضمن صلوات وأدعية وقراءات وحركات جسدية وإمساكات محددة في أوقات معينة وقرابين في مواسم معلومة......وكل الديانات "أرضية كانت أو سماوية" لها طقوسها في ممارسة تعبدها. لكن الأمر المهيمن هو طغيان الطقوس بأشكالها المختلفة على جوهر العملية التعبدية فيصبح التدين هو ممارسة هذه الطقوس حتى في غياب الجوهر، بل إن هذه الطقوس تكتسب قدسية أكبر من قدسية العلاقة بين العابد والمعبود، الشيء الذي يحول التعبد في بعده الفردي كعلاقة مباشرة بين الذات الإنسانية وذات متعالية تمتلك الكمال المطلق إلى إكراهات اجتماعية تجبر الفرد على ممارستها لا خوفا أو طمعا في الكائن المتعالي بل خوفا من المجتمع وطمعا في رضاه. التدين كما هو في الواقع إذن فعل اجتماعي، لا يمكن فهمه إلا باعتباره ظاهرة اجتماعية بكل مواصفاتها وإكراهاتها. لا ننكر حضور الجانب التعبدي في بعده الجوهري داخل كل ممارسة دينية لدى العديد من المتدينين، ولكنه في نفس الوقت يظل محكوما بقدسية الطقوس التي تعطيه قيمة القبول.
أما التعبد فهو بالأساس تعبير عن جوهر الإنسان منذ بلغ به التطور إلى امتلاك القدرة على المعرفة المجردة، حيث حاول من خلال مواجهة الطبيعة لتلبية حاجاته الحياتية الملحة لاستمرار حياته واستمرار نوعه معرفتها وتفسيرها ليسهل عملية السيطرة عليها. هذه المعرفة التي تطورت عبر مئات آلالاف السنين من حالة فتيشية fetichisme ملئ تصور فيها الطبيعة مليئة بالأرواح الخفية والغيبية باعتبارها المسؤولة عن كل ما يحدث من ظواهر، مما دفعه إلى التقرب منها والعمل على إرضائها عبر مجموعة من الطقوس والحركات والرقصات والقرابين وابتكار مجموعة من الطابوهات والمقدسات....الخ، وقد قابل هذه الحالة نموذج من التفكير لا زال مستمرا إلى الآن وهو التفكير السحري، لتأتي بعده، وبعد تطور فكري طويل وهائل عملية مرحلة تحويل الأرواح التي تسكن الأشياء والظواهر إلى آلهة متعالية مفارقة للأشياء.فكانت مرحلة تعدد الآلهة polytheisme كما يعكسها التفكير الأسطوري لدى الأشوريين والبابليين والمصريين القدماء واليونان، ومع نضج الفكر الإنساني ستبدأ الإرهاصات الأولى لمرحلة وحدة الإله monotheismeمع أخناتون الفرعون المصري ثم مع الموسوية التي ستؤسس للديانة اليهودية. التعبد على هذا الأساس توجه معرفي للإنسان يكتسب أمام عجز ونسبية المعرفة الإنسانية بعدا روحيا للاتحاد بالكون عبر كائن أوحد يجمع كل الكمالات التي تنقص الإنسان وتحد من قدراته. الكائن القوي القادر العالم الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور العزيز الرحمان الرحيم الغفور الشكور الجميل.....الخ التعبد هو هيمنة هذا الكائن على روح الإنسان وتوجيهه نحو مراتب الكمال النسبية...التعبد هو تمثل هذا الكائن اعتقادا وسلوكا واستبطانه في العلاقة مع الذات ومع الآخرين ومع الطبيعة والكون بأسره. لقد اتخذ التعبد أشكالا طقوسية عبر تاريخه فأصبح ديانات معينة لا سيما في الديانات المسماة سماوية، وأصبح أمام هذه الطقوسية يتوارى الجوهر ليحل محله الطقس سواء تعلق الأمر بالعبادات أو التشريعات ولا سيما حين يرتبط التدين بمجموعات بشرية معينة، فتتركب الأمور ليصبح غياب البعد التعبدي وطغيان البعد التديني مجالا صراعيا بين البشر بل وحتى بين أتباع الدين الواحد، ولا سيما عندما تتطور الوسائل المعرفية للإنسان ولا يعود الدين أو التعبد عموما أداة لفهم الطبيعة واكتشاف قوانينها بحلول الفكر العلمي كأداة للمعرفة والإنتاج و السيطرة على الطبيعة، مما سيجعل التعبد شأنا روحيا يلبي ذلك النزوع الإنساني نحو الكمال والطمأنينة النفسية وسلامة العلاقة مع الآخرين والعيش في انسجام مع قوانين الكون. أن يتعبد الإنسان بطقوس دين معين مستحضرا الجوهر الروحاني العميق للتعبد لا يجب أن يجعله في عين المتعبدين بطقوس دينية أخرى كافرا أو ملحدا أو خارجا عن الملة. إن المتعبدين مهما اختلفت طقوسهم يعبرون عن جوهر واحد هو التوجه نحو الكمال الذي لا يمكن بلوغه ولكن يمكن استحضاره كمنارة للفكر وللسلوك. إن المتعبدين مهما اختلفوا في شعائرهم يشكلون "أمة" واحدة تتقاسم قيم الحق والخير والجمال وتتسلح بالمعرفة والقيم والوجدان وتسعى إلى تحقيق أعلى درجات التوازن والانسجام.... وأينما تولوا وجوهكم فتم وجه الله. أنا متعبد بمعرفتي الساعية نحو الحق والحقيقة، متعبد بوجداني، بجعل المحبة أساس مشاعري، متعبد بالقيم الكونية التي توحد الإنسان جاعلا من كرامته هدفا أسمى، وهذا التعبد يبعدني عن اعتبار الدين حقلا للصراع ومدعاة للتعصب ومبررا للعدوان والاعتداء وأكفر بالتكفير مهما كان أصحابه ودعاته دون معاداة وبمزيد من الحوار الحر والمسؤول.