الأصل في العبادة أنها تصل النسبي بالمطلق، والحادث بالقديم، وتصل الخلق بالحق، في سعي من الإنسان للتخلص من ثقل المادة وكثافتها ليعانق شفافية عالم الروح ولا نهائيته، ويطلع على عوالم ليس له أن يدركها إلا بالتخلص من الحس الذي ينزل بكلكله على النفس فيحجبها ويخلد بها إلى الأرض ويطمس طاقتها. ومنذ كان الإنسان كانت حاجته لتفريغ طاقاته العقلية الإبداعية والاكتشافية تتجه به إما إلى العلم الذي يقوم على فكرة الفضول الذي لا يتجاوز به حدود الحس أو إلى الدين الذي يقوم على فكرة الحصول ، أي حصول معرفة نفسية من نوع مختلف ومتجاوز لسجف الحس، وطريقها الإيمان واليقين. وإن مما يسم التدين عند الإنسان حالة الاستغراق التي تلف كيانه في صلته وتواصله مع ما يدين به، حتى لا يكون شيء يحجبه عنه لحظة قربه واتصاله، لأنها أخص اللحظات الإنسانية في تفاعلها مع معبودها،وهي لحظة يجتمع فيها على الإنسان مشاعر فياضة ومتداخلة بل ومتناقضة من الفرح والحزن والنشوة والقوة والضعف وما إليها من المشاعر التي قد تدفعه إما للصراخ بفعل غلبة الحال عليه كما يقول أهل العرفان أو أن يلوذ بكهوف الصمت متأملا في شريط بدايته ونهايته. لكن حالة الاستغراق هذه اليوم باتت لا تختص بلحظات العبادة التي تعارفها الناس فيما بينهم، بل صارت الفرصة الكروية تحققها، بل وتذهب بالإنسان إلى أبعد مدى في التعلق بالمعبود الجديد(كرة القدم)، وبمناسباتها ومبارياتها هنا وهناك والتي نزلت منزلة الحج في الممارسة الدينية التقليدية، إذ بات الإنسان"العابد الجديد"لكرة القدم لا يتقدم عنده شيء من أنشطته ووظائفه على "قداس" كرة القدم. فيؤخر كل عاجل على أن يستدرك بعد قضاء"فرائض" المتابعة التي حصل فيها قدر كبير من"الخشوع" و"الحضور" و"التأثر الوجداني" الذي لا مثيل له، فترى"الدموع"سجاما على الخدود من فيض التفاعل مع حركة الكرة بين الأرجل والتي قد ترفع مستوى"الأدرنالين" إلى أقصاه. ثم إن هذه العبادة استطاعت ،بعد أن ملكت كيان الإنسان وجسده وروحه، أن تملك ماله ونقوده، فقد جعل العابد الجديد في ماله للكرة "نصيبا مفروضا" يقتطعه خالصا لوجه "الكرة الجلدية المقدسة"، فهو لا يتردد قيد أنملة في السخاء بماله سفرا وحجا قاصدا لبيت الكرة"الحرام" يتكبد وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب، أو في أقل الأحوال أن يشتري لحظة المتابعة البصرية في مقهى أو ناد أو في بيته من طريق اللواقط لمراسيم"المباريات" التي يحج لها الناس بأرواحهم وأجسادهم. وإذا كانت المحبة الصادقة في الدين التقليدي تدفع الإنسان لاقتناء تذكار الزيارة من المشاعر المقدسة التي يحج إليها حتى يحتفظ المتعبد بالمكان و"يُخَلِّدَ"اللحظة الروحية معه ترافقه إلى بلده، ففي دين كرة القدم تجد حرصا شديدا على شراء تذكار المباراة وقميص الفريق وشارته وطاقيته التي عليها صورته ورمزه وأيقونته لنفس الغرض في العبادة التقليدية حتى يظل مسكونا بروح"الكرة المقدسة" وروح" الفريق المقدس". وكما للعبادة بالمفهوم التقليدي طقوسها التي تعبر عن "النظام" و"الامتثال" فالعبادة الجديدة أيضا لها طقوسها وترانيمها وتراتيلها الجماعية بكل اللغات التي يملأ بها الإنسان العابد الجديد أرجاء "العتبات المقدسة" أي الملاعب، فيكفي أن تتابع حركات الجمهور لتفهم هذه الطقوس وهذه الأصوات المتعالية من هنا وهناك في ترتيب ونظام من قبيل"هولي هولي هولي هولي"، أو تتابع ما يسمى بموجة "لا أولا"La Ola ، وهي كلمة من أصل إسباني تعني ذلك الطقس الجماعي الذي يقوم به الجمهور في العالم حيث يتحرك واقفا وراكعا في حركة تعاقبية كأنها الموجة عبر جنبات الملاعب مصاحبا ذلك بصراخه وصلواته الجديدة"هولي هولي". ويتصعد الموقف التعبدي الجديد عند الإنسان المعاصر ليصل ذروته حين يعلن"الدفاع المقدس"عن القميص وعن"شرف الكرة الوطنية" والتي قد تصل بجمهور"المتألهين الجدد" إلى تصريف العنف في سبيل هذه الغاية، وهو"جهاد كروي" أبطاله "عباد كرة القدم المتعصبون والمتشددون(هولكينز وهولكنيزمHooliganisme)" ما دام في كل دين عبر العالم متسامحون ووسطيون يقابلهم أصوليون ومتشددون. * أكاديمي ومفكر مغربي http://makboul.over-blog.com