تمر عليهن في الأسواق بدرب السلطان أو ببعض الأسواق في الأحياء والأزقة الضيقة..يواجهونك بإبتسامة وهن يعرضن فطائرهن التي قد تكسد في بعض الأحيان. وراء كل واحدة منهن قصص ومآسي. "فبراير.كوم" جالست بعضهن وتحكي لكم قصصهن. تعالوا ... ما بقاش البغرير... والمسمن غير بلاش" .. "آجيو آلعيالات .. ذوقوا رغايف الحادكات " والصراخ الذي يعلو الفضاءات الشعبية في العاصمة الاقتصادية الدارالبيضاء ليس إلا لنساء لسن كمثيلاثهن، ولا يهم إن كن عازبات أو متزوجات أومطلقات، لأن المشترك بينهن أكبر! إنه خليط من المحن والمعاناة التي فَرضت عليهن شقاءا من نوع آخر ليس سوى البحث عن مورد رزق وسط غابة من المشاكل.
طبعا الرغيف ليس بالمجان، لكن السعدية، وفاطمة ...وكثير من بائعات الرغيف تعلمن كيف يبعن سلعتهن دون أن يتتلمذن بالضرورة على أبجديات الماركوتينغ.. "سبعة الدراهم للزينة" تلوح بيدها وفي يديها دزينة من فطائر "البغرير"....ويحدث أن تكسد البضاعة أو لا تباع كلها، وفي هذه الحالة يأخذنها إلى البيت، فإذا لم يلتهمها الأبناء، فهذا معناه أن "النهار معكس وكحل زحل" كما تعلق فاطمة ل"فبراير.كوم". لكن، مع رمضان، يزداد الإقبال على الفطائر، ولهذا يزداد عددهن، ويتضاعف عدد المتزاحمات من البائعات أمام زبونات وزبناء قدرتهم الشرائية متواضعة. وهذا ما توضحه فاطمة دائما:"كيصحاب ليكم في رمضان كنصورو بزاف...تمارة وصافي..حنا عاشين مع الدراوش..تطير حتى تعيا وتدير واحد 50 درهم ديال الربح..واش هي قيمة الوقوف في الشمس أو "التسمان" (تقصد تحضر الفائر) قدام الفران والزيت والعجينة..خليها علاه وصافي.."
كل شيء في حياتهن يتغير رأسا على عقب حينما يقترب الشهر الفضيل، وحتى قبل أن تُعلن الطلقات المدفعية الثلاث، والتي تليها تلك النغمات المزمارية إياها، عن دنو شهر رمضان، وقبل أن تصل نسمات رمضان الكريم إلى الفضاءات البسيطة في الأحياء الشعبية العتيقة بالدارالبيضاء، تكون فاطمة ومريم ... قد أعدتا ما يكفي لبداية حياة أخرى بطقوسها المميزة الجميلة، وبتفاصيلها المؤلمة.
نحن الآن بدرب السلطان، نحن بالضبط بالسوق الشعبي المكتظ، وسط ضجيج الحافلات وأصوات السيارات والصراخ المرتفع والمتواصل لأصحاب "الفرّاشات"، هنا تجلس فاطمة، ليس ذلك اسمها، ولكن لا يهم، الأهم أن فاطمة، ابنة درب السلطان، تعلمت معاني الحب والتعب، وقواميس العشق والألم، لذلك فقد أكل الزمن الكثير من ملامحها السمراء الفاتنة، على الرغم من أنها بالكاد بدأت مشوار العقد الرابع. وسط العشرات من أبناء مجاييلها، تجلس فاطمة القرفصاء، تقفز تارة إلى الأمام، وتارة أخرى إلى الوراء، فالزبناء من كل جانب، والكثير من هذه الحركة والابتسامة التي لا تفارق محاياها .. هي الشفرة السرية التي تكسبها ما يكفي من الزبناء، وها هي سميرة التي لم تتخلف يوما من أيام رمضان، من كل رمضانات السابقة، في شراء "البغرير" و"المسمن" الذي تعده بكثير من الاهتمام:"كيعجبني هاد شي اللي كتدير .. داك شي علاش ديما فرمضان كانجي نتقدى من عندها"، تقول سميرة. الكثير ممن يشاهدون فاطمة وسط ركام الأجسام المهترئة وروائح الحافلات التي انتهى عمرها الافتراضي، يعتقدون أنها تعيسة، إنها أكثر من ذلك، التعاسة يمكن أن تنحني إلى البرنامج القاهر الذي تقضي تفاصيله كل يوم. كل يوم، تضطر، للاستيقاظ باكرا، تعجن، تطهو. "الرغايف" التي تكون جاهزة للبيع مساء كل يوم، تتطلب من فاطمة حوالي ست ساعات من الإعداد، وهو نفس البرنامج الذي تقضي تفاصيله منذ خمس سنوات، منذ أن تركها زوجها ورضيعتها التي لم يكن سنها يتجاوز حينها سنة ونصف، فوجدت نفسها وحيدة لا ناصر لها ولامعين. تقول فاطمة والكثير من الحرقة في صوتها: "كنت ما أزال شابة، كانت حياتي بسيطة، لكن ما إن ارتبطت بذلك الرجل حتى انقلبت حياتي رأسا على عقب، وازداد الأمر تعقيدا عندما تخلى عني أنا وابنتي"، تصمت فاطمة قليلا، ثم تستمر في البوح المؤلم. لقد حاولت فاطمة التأقلم مع وضعها الجديد الذي خلفه الزوج الهارب، فقررت الخروج إلى العمل، بحثت هنا وهناك، وحينما أُغلقت جميع الأبواب، اضطرت لبيع الفطائر في عمق درب السلطان، خاصة وأنها تتقن فن الطبخ. فاطمة، نموذج للأمهات اللواتي يسهرن على العمل في البيت وخارجه. الأكثر من هذا تضطر إلى تتبع مسار ابنتها الدراسي:"لا أريد لابنتي أن تتذوق طعم الانكسار الذي عشته، لذلك أشتغل ليل نهار لكي أعفي نفسي وأعفيها من أن تطرح يوما أسئلة من قبيل كيف ومن يتحمل مسؤولية هذا الوضع". الأسئلة التي تقلق راحة فاطمة ليست هي بالضرورة التي تُغضب مريم، ومريم ليست إلا نموذجا للفتيات اللواتي كُتب عليهن الشقاء منذ نعومة أظافرهن، علما أن صورتها وهي تجلس بالقرب من فاطمة لا توحي إطلاقا إنها تحمل في قلبها جبلا من المشاكل المتراكمة. ليست فاطمة إلا نموذج للواتي كُتب عليهن الشقاء باكرا، وليست مريم أيضا إلا الصورة التي تجسد معاناة من نوع آخر. صحيح أن صورتها توحي بأن عمرها لا يزيد عن الثلاثين سنة، لكن حشرجة صوتها تؤكد أنها تبلغ من العمر أكثر، ولعله الزمن وقساوته التي دفعتها إلى مغادرة فصول الدراسة بعدما اشتد الفقر، ثم غادرت سطات التي عاشت في أحيائها قليلا من أجمل أيامها نحو الدارالبيضاء، عفوا إلى هوامش العاصمة الاقتصادية للبلاد، وهي التي كانت تعتقد أن المدن الكبرى تستقبل ضيوفها استقبال الكبار، قبل أن ترتمي في أحضان الفقر المدقع. كانت تحلم أن تصبح مدرسة لتعلم أبناء منطقتها، لكتها أصبحت بائعة فطائر إلى جانب فاطمة، وتُعيل اليوم أسرة مكونة من خمسة أفراد يقتسمون فضاء منزل متواضع عبارة عن غرفة مقابل 500 درهم. مريم، الشابة التي تركت أحلام الماضي الجميلة منذ أن غادرت سطات، تعيش اليوم تعاسة لا تنقطع خيوطها إلا نادرا، تركب الأمواج الكبيرة، وتمني النفس في الغد الجميل، لكن ما كل الأماني تتحقق.