في هذه الحلقة يشرح انياس دال لماذا انكب على دراسة شخصية الحسن الثاني، ويصفه بالكريم والمقبض اليد في آن. حساس وعنيف. ذو رؤية ومحدود الأفق في نفس الوقت. لم يدع أحدا في سلام ولا ترك شخصا محايدا. يثير الاعجاب والغضب في آن. رجل دمه بارد. يترك الوقت للوقت.. غدا: علاقات الحسن الثاني داخليا وخارجيا-الحسن الثاني عمل على مخزنة الأحزاب وتوظيف الخارج لاحكام ،وعلى الرغم من أن الأمر يتعلق بشكل كبير بموضوع مركزي، كان موضوع مناقشة بين واشنطنوالرباط، فلا يكاد المرء يجد سطرا واحدا حول هذه المسألة في صفحات «سجل العبقرية الحسنية» ذائع الصيت، والبالغ عدد صفحاته 10.000 صفحة! إنه موضوع هجرة اليهود المغاربة في اتجاه إسرائيل. فالمفاوضات التي تم إخفاؤها بعناية من طرف الحسن الثاني، سرعان ما انتقل موضوعها إلى الحديث عن حجم التعاون الكبير بين الرباط وتل أبيب في المجال الأمني.معنى هذا أن الهوة يمكن أن تكون، في بعض الأحيان، كبيرة ما بين السياسة، أو القناعة المُعلنة، وبين الواقع. لقد كان الحسن الثاني ذا شخصية مركبة: كان كريما ويقبض يده في الوقت ذاته، حساسا وعنيفا، ذا رؤية بعيدة المدى ومحدود الأفق. لم يَدَع أحدا في سلام ولا ترك شخصا محايدا. وبقدر ما كان يثير من إعجاب بقدر ما كان يثير من غضب شديد.والمتأمل في الطريقة التي كان يمارس بها الحُكم، ويتصرف على أساسها أمام الملأ، يكتشف رجلا بدم بارد، يحب أن يأخذ وقته الكافي كاملا، يعطي الوقت للوقت كما يقال: كان لا ينسى شيئا، ونادرا ما كان يصفح ويسامح. لم يكن تلقائيا، بل كان يحسب كل شيء ببرودة دم. ثم إنه كان يحب أن يقيم علاقات قوية شريطة أن يخرج منها منتصرا. وقد كان الأمر سهلا داخل نظام الملكية المطلقة الذي أقامه، وبالتالي لم يكن يحرم نفسه من هذه العلاقات أبدا. وباستثناء السنتين الأخيرتين، أو الثلاث سنوات الأخيرة من حياته، التي كان فيها متعبا وهشا ووحيدا، وبالتالي لم تعد عنده متعة في ذلك، فإن الحسن الثاني كان يستعمل الجميع.بعد التشجيع الذي لقيت به من طرف عدد من قراء كتابي «الملوك الثلاثة»، المخصص لدراسة المَلَكية المغربية منذ الاستقلال، قررتُ توجيه أبحاثي نحو دراسة شخصية الحسن الثاني وحدها. وأنا على وعي تام بأن عملي كان سيكون أكثر دقة لو تمكنتُ من لقاء العاهل المغربي شخصيا. غير أنه في الوقت الذي راودتني فيه فكرة كتابة هذه السيرة، غير المرخص لها بطبيعة الحال، كان الحسن الثاني قد وافته المنية منذ بضع سنوات. ولحسن الحظ أنه ترك للخَلَف وللتاريخ، قبل وفاته، مذكرات وأطنانا من الخطب والحوارات، والآلاف من الذكريات الحزينة أو السعيدة بالنسبة إلى معاصريه. ثمة إذن مادة هامة تسمح لنا بتقديم صورة مضبوطة عن هذه الشخصية. يُضاف إلى هذا ما توفره الأرشيفات، التي أفرجت عنها كل من فرنسا والولايات المتحدةالأمريكية، شريكتاه الرئيسيتان على الأصعدة الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية. ومع ذلك، فإن هذه الأرشيفات المفرج عنها ناقصة للأسف. فلا شيء، مثلا، عن قضية المهدي بنبركة، اللهم بعض أسماء الأمكنة المعروفة والمشتركة. وفي المقابل، فإن بعض المؤرخين الإسرائيليين يقدمون معلومات ثمينة مستقاة، على وجه الخصوص، من أرشيفات الموساد، أو من وزارة الخارجية الإسرائيلية. أما في ما يتعلق بالعشرين سنة الأخيرة من الحكم الحسني، فنحن في انتظار أن تفرجَ باريس وواشنطن عن وثائقها. ولعل الأمر أقل خطورة، بما أن الحسن الثاني بات خلالها سهل العريكة.المُشكل الكبير بطبيعة الحال هو استحالة الاطلاع على الأرشيفات المغربية، التي لا أحد استطاع الإشارة إلى مكان وجودها. بالطبع أنا لستُ مؤرخا ولا أزعم ذلك، بقدر ما أسعى إلى تقديم ملامح بيوغرافيا متكاملة إلى هذا الحد أو ذاك. ومن ثم، فإنني سوف أفرد القسم الأول من هذا الكتاب، أولا، للتربية التي تلقاها الأمير الصغير منذ نعومة أظافره، وحُلمه بأن يكون ملكا. لقد كان الحسن الثاني يتوفر على ذكاء خارق، فضلا عن الظروف العائلية التي كانت جد مواتية لتربيته. غير أنه، للأسف، كان ينقصه، منذ طفولته ومراهقته، أصدقاء حقيقيون لهم الشجاعة لأن يقولوا له الحقيقة في وجهه صراحة. لقد عاش حياته محاطا بحاشية من المتملقين أبعدوه، في معظم الأحيان، عن الحقيقة والواقع. ومن ثم عملت نزواته، التي ميزت طفولته المدللة، على الانحراف أحيانا، مفضية به إلى الكشف عن سلوكات قاسية، وعن سورات غضب مهولة تزرع الرعب والهلع في محيطه. وللأسف، لم تنجح الهبات الكثيرة التي كان يمنحها في نسيان هذا الجانب من شخصيته..