تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    بيدرو سانشيز: إسبانيا تثمن عاليا جهود صاحب الجلالة الملك محمد السادس من أجل الاستقرار الإقليمي    قضايا المغرب الكبير وأفريقيا: المغرب بين البناء والتقدم.. والجزائر حبيسة سياسات عدائية عقيمة    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    تثمينا لروح اتفاق الصخيرات الذي رعته المملكة قبل تسع سنوات    مجلس الأمن: بلينكن يشيد بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.        مباراة الزمامرة والوداد بدون جماهير    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    دورية جزائرية تدخل الأراضي الموريتانية دون إشعار السلطات ومنقبون ينددون    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    هجوم ماغدبورغ.. دوافع غامضة لمنفذ العملية بين معاداة الإسلام والاستياء من سياسات الهجرة الألمانية    ترامب يهدد باستعادة السيطرة على قناة بنما على خلفية النفوذ الاقتصادي المتنامي للصين    تفكيك أطروحة انفصال الصحراء.. المفاهيم القانونية والحقائق السياسية    مجموعة بريد المغرب تصدر طابعا بريديا خاصا بفن الملحون    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    الأستاذة لطيفة الكندوز الباحثة في علم التاريخ في ذمة الله    السعودية .. ضبط 20 ألفا و159 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل خلال أسبوع    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    المغرب أتلتيك تطوان يتخذ قرارات هامة عقب سلسلة النتائج السلبية    أمسية فنية وتربوية لأبناء الأساتذة تنتصر لجدوى الموسيقى في التعليم    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    سابينتو يكشف سبب مغادرة الرجاء    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    التقلبات الجوية تفرج عن تساقطات مطرية وثلجية في مناطق بالمغرب    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    علوي تقر بعدم انخفاض أثمان المحروقات بالسوق المغربي رغم تراجع سعرها عالميا في 2024    جلسة نقاش: المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة.. الدعوة إلى تعزيز القدرات التمويلية للجهات    بطولة انجلترا.. الإصابة تبعد البرتغالي دياش عن مانشستر سيتي حوالي 4 أسابيع        دراسة: إدراج الصحة النفسية ضمن السياسات المتعلقة بالتكيف مع تغير المناخ ضرورة ملحة    بريد المغرب يحتفي بفن الملحون    اصطدامات قوية في ختام شطر ذهاب الدوري..    العرض ما قبل الأول للفيلم الطويل "404.01" للمخرج يونس الركاب    جويطي: الرواية تُنقذ الإنسان البسيط من النسيان وتَكشف عن فظاعات الدكتاتوريين    مؤتمر "الترجمة والذكاء الاصطناعي"    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحسن الثاني علاش باقي كيخلع ؟
نشر في هسبريس يوم 01 - 11 - 2008

كنا نخاف من الحسن الثاني، واليوم أصبحنا نخاف على محمد السادس"، تردد هذا الكلام كثيرا على لسان رجل الشارع،بعد تقلد الملك الشاب العرش،فجبروت الحسن الثاني كان يبعث الاطمئنان في نفوس الشعب،الذي كان يعلم أن البلاد محكومة بقبضة من حديد ومحفوظة ببركة ملكها.
""
9 سنوات مرت على رحيل الحسن الثاني تاركا المغرب يتيما دون"حامي الوطن"و"موحد البلاد" ، كما كان يحلو للملك الراحل أن يصف نفسه،يمثل الحسن الثاني في الذاكرة الجماعية اليوم الأشياء كلها ونقيضها، فهو الملك المستنير والطاغية الإقطاعي وهو المثقف اليقظ وصاحب القرار السلطوي، فالأسطورة الحسنية ترتوي من هذه التناقضات لترسم ملامح شخصية بالغة العمق لا يمكن اختزالها بنعت معين، يرجع الانبهار بشخصية الحسن الثاني بالطبع إلى كونه ملكا،بكل ما يقتضيه ذلك من صفات ظاهرة وباطنة، لكنه يرجع كذلك بالأساس إلى استمرارية ملكه، فهو وريث حكم دام لقرون وسير شعبا وأخضعه، لكنه تميز أيضا بشخصية لامعة أبهرت معاصريها، متجاوزة حدود المملكة، كان له من المعارف العلمية ما يجعله يحاور كبار أطباء العالم الذين عالجوه،و كان يستعين بخدمات ونصائح أعلام القانون، أمثال موريس دوفيرجي وجورج فيديل،ب عد رحيله قدمت صفوة العالم من بيل كلينتون إلى جاك شيراك،لتشييع جنازته والسير وراء موكبه الأخير، في حين أن الكثير من هؤلاء لم يتحركوا للمشاركة في مراسيم دفن"ابن عمه"ملك الأردن بعد وفاته شهورا قليلة بعد ذلك،،،فالإشعاع الدولي الذي أعطاه الحسن الثاني لحكمه،وكذا ترسيخه الماهر لصورته الازدواجية،هو ما خول له الدخول في مصاف كبار الملوك،لكن شعبه كثيرا ما كان يدفع ثمن ذلك.
ملك قبل أن يصبح أميرا
"بدفن والدي، كان علي أن أدفن معه ولي عهد لم يكن يتوقع أن يعتلي العرش يوما ما"، هذا ما قاله الحسن الثاني لاريك لوران في سيرته الذاتية " ذاكرة ملك" عندما سأله عن توليه الحكم عام 1961، فارق السن بينه وبين أبيه الذي لا يتعدى 20 عاما، كان يجعله يستبعد فكرة خلافته في الحكم، إذ كان يعتقد أنه سيظل مجرد"مساعد فذ" لملك شاب سيتربع على العرش طويلا،و مع ذلك فقد كان ولي العهد مهيئا بما يكفي ليصبح ملكا، ومحمد الخامس لم يخف يوما أن الحسن الثاني سيخلفه بعد رحيله... وسرعان ما وجد الأمير الشاب نفسه في عباءة الملك، كيوم الرجوع من المنفى عندما اجتمعت الحشود لاستقبال ملكها العائد من المنفى والتعبير عن فرحتها مرددة هتافات"عاش الملك" التفت ولي العهد إلى والده وسط هذا الجو الحماسي وسأله باختصار"ماذا تفعل لو أن الشعب بدل أن يهتف بنصرك طالب بمماتك ؟"، وكان جواب محمد الخامس، "ليحفظني الله من ذلك"،لكن الأمير استطرد قائلا،"أما أنا فسأسحق هؤلاء الناس الهستيريين"، منذ كان وليا للعهد، بل ومنذ كان طفلا، كان الحسن الثاني واعيا بالدور الذي ينتظره ويغمره اعتزاز جد مخزني برفعة القدر،ف قد ذكر الكاتب الصحفي انياس دال،في كتاب"الملوك الثلاثة"،الواقعة التي حدثت بين الأمير الشاب مولاي الحسن في المنفى بمدغشقر وبين عميد شرطة فرنسي،حيث قال له هذا الأخير"صاحب الجلالة، أوغير ذلك،هذا لا يهمني"،وردا على هذا الكلام الجارح، كتب الأمير رسالة استنكار(استعادتها فيما بعد مصالح أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية) إلى طبيبه الفرنسي الذي حضر الواقعة، قائلا فيها"كنت أتوقع منكم باعتباركم صديقا جليلا،أن ترفضوا ركوب السيارة التي يركبها من تطاول على سمونا، حسنا مهما يكن فأنا أعول عليكم لكي لا تتكرر مثل هذه الأحداث المكدرة، فصاحب الجلالة تألم كثيرا بعد أن نقلت له الواقعة،ومثل هذه الإساءة لا يمكنها أن تخلف لديه انطباعا جيدا عن أبناء بلدك"، فبالرغم من نفيه وإخراجه من بلاده من طرف المستعمر الفرنسي، كان مولاي الحسن يحس بسموه ورفعة قدره أكثر من أي وقت،إن محنة المنفى التي عاشها الحسن الثاني هي التي صنعت أسطورة ملك ناقم لم يتقبل يوما إهانة والده الذي تحمل طويلا سلطات الحماية.
عندما سأله ايريك لوران عن علاقته بوالده محمد الخامس،أجاب الحسن الثاني"لقد أصبحنا صديقين مقربين مع الحفاظ على كل الاحترام الواجب للأب"،مؤكدا بذلك فكرة تأثيره وسطوته على أبيه الملك،وهي الفكرة التي يرجحها كذلك انياس دال،الذي قال في كتابه"الملوك الثلاثة" ،"إلى جانب أب هش الصحة قلق ومتردد،وأمام طبقة سياسية لم تتخل عناصرها البارزة عن فرض رؤيتها على القصر، سرعان ما فرض مولاي الحسن،الذي كان يسيطر فكريا على والده نفسه على جميع الأطراف كمحاور أول".
البركة الحسنية
التحق مولاي الحسن مبكرا بالسلطة، فقد عين رسميا وليا للعهد سنة 1957، وذلك بعد سنة واحدة من الحصول على الاستقلال،كما شارك في سنة 1947 وكان عمره حينها لا يتجاوز 17 سنة،في رحلة محمد الخامس التاريخية إلى طنجة، لكن الحسن الثاني لم يكن مجرد ملك سابق لأوانه بل كان حاكما استمر عرشه وصمد وقد نسجت خرافات شعبية حول"البركة" التي يتوفر عليها الحسن الثاني،والتي مكنته من النجاة من محاولتي الانقلاب اللتين تعرض لهما خلال سنتين متواليتين،فقد وقف ضيوف الملك الذين حضروا انقلاب الصخيرات مذهولين عندما خرج الحسن الثاني سالما ومحاطا بالعساكر(وقد كان من المخطط أن يقبضوا عليه)،وطلب من الحاضرين تلاوة الفاتحة،عندما عرف الحضور أن العرش نجا من الانقلاب،ورغم هول الحادثة لم يظهر شيء على وجه الملك وحافظ على هدوء أعصابه،،،واكتسب سمعة الشجاعة التي عرف بها والتي دعمتها إصابته في حرب 1958،عندما ضربت مروحيته برصاص الثوار الريفيين.
بعد إحباط محاولتي الانقلاب،اشتدت إجراءات الردع والقمع التي بررها الحسن الثاني فيما بعد بلغة ملك له شرعية إلهية" لقد ابتلينا بإعصارين في ظرف أقل من سنة،أشياء كثيرة دمرت لكن وبفضل الله كل شيء كان نظيفا،فالمطر يطهر وكل الأشجار الخبيثة قد تم اقتلاعها،فكما لو أن الله أراد تطهير هذا البلد،بهذه الإحالة إلى المرجعية الإلهية المستمدة من النسب الشريف كان الحسن الثاني يعمد إلى تثبيت الشرعية العلوية عبر الجمع بين السياسة والدين، شرعيته باعتباره أميرا للمؤمنين لم تمنعه عند وضعه لأول دستور للمملكة من تبني القانون الوضعي مع الحفاظ على تقاليد الشريعة الإسلامية، كان الحسن الثاني كثيرا ما يأتي على ذكر الله في خطاباته، ويلعب ببراعته دور الحكيم وكما كان يستحضر قوة حدسه، فعلى سبيل المثال أجاب اريك لوران عن تساؤله عن تطور الأوضاع في المملكة بعد محاولتي الانقلاب في 1971 و1972،"لقد اعتمدت على حدسي في تغيير مجموعة من الأمور"،هكذا نشأ السحر الذي يلف شخصية الحسن الثاني الوريث الشرعي السابق لأوانه وخليفة الله،أمير المؤمنين،الذي نجا بأعجوبة من الموت أكثر من مرة.
بعد مرور ثلاث سنوات على الواقعتين،تمكن الحسن الثاني من قلب الأوضاع برمتها،فقد أصبح المعارضون بلا حول ولا قوة للإضرار به،وبات الشعب يتملقه (أو يخافه على الأقل) والعالم يحترمه وعلى حد قول انياس دال"لم يكن الحسن الثاني محظوظا فقط بالنجاة من محاولتي انقلاب،بل لعبت الصدف التاريخية لصالحه،مقدمة له فرصة بناء أسس جديدة وترسيخ عرشه بصفة نهاية"فقد كان للمسيرة الخضراء الفضل في تلميع صورة الملك،الذي ظل لمدة طويلة محط الاتهام،حيث تجمع اليوم كل الأصوات تقريبا على"عبقرية الضربة السياسية" التي سددها الحسن الثاني بهذه المسيرة،ومن بينهم الكاتب الصحفي جان دانييل الذي يقول بإعجاب"لقد كانت المسيرة الخضراء ابتكارا رائعا،فالطريقة التي استمال بها الحسن الثاني الشعب ووحد بها الأحزاب السياسية لا تصدق،وقد حقق ذلك باسم وحدة التراب الوطني وقداسة الأراضي الصحراوية"،رغم أن المنتقدين لحكم الحسن الثاني لا يرون في المسيرة الخضراء سوى خطبة دعائية ووهم كبير،الا أنها تعتبر صفحة مضيئة في سجل الملك،فكما هو الشأن مع حفظ الفوارق بالنسبة إلى الأمريكيين الذين يفتخرون بنصرهم في العراق والإطاحة بصدام،متناسين مستنقع الحرب الذي تورطوا فيه،كذلك فتحت المسيرة الخضراء"المظفرة"صراعا مازال المغرب يتخبط فيه،فقد وحدت البلاد ليس في قفزة للنصر وإنما في نوع من المزايدة الوطنية التي أخرجت النمو الاقتصادي للبلاد،غير أن منطق الحسن الثاني ربما يرى أن عرشه يستحق هذا الثمن.
الله و ميكيافيلي
شكلت"المسيرة الخضراء"حجر الزاوية في الإقرار ب"عبقرية الحسن الثاني"ومنعطفا هاما في حكمه،فقد دفعت به إلى الواجهة الإعلامية وأعلت كلمته في المحافل الدولية،حيث بدأت الصحافة الدولية تعترف بمكانته كأحد الزعماء الكبار وتوارت إلى الظل سمعته السيئة، في عام 1976 أصدر كتابه المعنون ب"التحدي"،مغلقا القوس على الحقبة التي كان فيها عرشه مهددا ،فقد استوعب منها الدروس جيدا،استهل الحسن الثاني كتابه بآيات قرآنية"ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم""واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا"،وأتبعها مباشرة بعبارة مقتطعة من كتاب لميكيافيلي"اذا كان التواطؤ ضد أمير واحد مغامرة غير محسوبة العواقب فالتواطؤ ضد اثنين أمر بدون جدوى ولا معنى"،لقد كانت الرسالة واضحة من الصفحة الأولى في الكتاب"اتبعوني لأني أتبع طريق الله وأي انشقاق سيكون دون جدوى"،فقد استخدم الحسن الثاني في خطابه طريق الله بمثابة الجزرة وميكيافيلي بمثابة العصا.
شكل الإسلام،مع إضفاء لمسة الديمقراطية والليبرالية المستمدة من الغرب،الأساس الذي بنيت عليه الشرعية العلوية،لأن الحسن الثاني أدرك مبكرا كيف يوظف مكانته كأمير للمؤمنين،وكان واعيا بالدور المطلوب منه لعبه باعتباره قائدا دينيا،ففي سنة 1956 حين كان لايزال أميرا صرح قائلا"ان الإسلام من وجهة نظري كمسلم،يتضمن كل المبادئ التي تجعل من العمل الاجتماعي فرضا على كل مسلم"،مضيفا أنه"ينبغي أن ننظر إلى الإسلام من زاوية جديدة تتلاءم مع القرن العشرين،وسنجد فيه كل المبادئ اللازمة لبناء مجتمع يستعير من الرأسمالية كل جوانبها الايجابية دون أن يصبح عبدا للمال"،فقد كان الحسن الثاني يستند أحيانا إلى المرجعية الإسلامية ليبرر سياسته الأطلسية والمناهضة للشيوعية،لكن الملك الراحل كان يخلط الأوراق باستمرار،تتجاذبه التأثيرات المتناقضة لنشأته وتربيته،حيث أجاب ايريك لوران عندما سأله عن قراراته التي تسير عكس تيار الدول العربية الأخرى" في اختياراتي حد أدنى من الثقافة، فقد كان لي الحظ الكبير في الحصول على ثقافة مزدوجة لا يقل أي جانب فيها صلابة عن الآخر"،ولكي يشرح التعددية الحزبية أو خيار الفلاحة أو حتى توجهه الدبلوماسي الموالي للغرب كان الحسن الثاني ينهل من ثقافته التقليدية المستمدة من الإسلام وكذا ثقافته العصرية المتأثرة بفلسفة الأنوار الغربية،فكما كان يستشهد بالآيات القرآنية كان يستشهد بمونتسكيو،وكل النصوص الدستورية المغربية هي ثمرة لهذا المزيج بين الثقافتين،كما أن الدستور الذي وضع سنة 1963،والذي نص لأول مرة على"شخص الملك مقدس لا تنتهك حركته"،يعزز الشرعية الدينية والتاريخية للملك مع إضفاء صبغة برلمانية وديمقراطية على هذه الشرعية.
بعد نظر أم مهارة في التخطيط؟
المتملقون للعهد السابق يشهدون للحسن الثاني بالعبقرية السياسية،لأنه تمكن من فرض سلكته في فترة كان فيها المغرب يغص بالشخصيات السياسية الوازنة دوليا،أمثال علال الفاسي والمهدي بنبركة وعبد الرحيم بوعبيد،واستطاع تأسيس أسطورته إلى جانبهم،فخصوم الملك السياسيين كانوا من نفس العيار والمعركة بينهم لم تكن محسومة مسبقا،لقد كان الحسن الثاني واعيا بالمكانة التي بات يحتلها بين زعماء عصره،فقد صرح لكاتب سيرته الذاتية ايريك لوران"لو أني حضرت في كل مرة يعقد فيها أحد الأحزاب مؤتمره وتقدمت قائلا،أقترح أن أكون الكاتب العام أو الرئيس فسيتم انتخابي بالإجماع"،كان بلا شك محقا في قوله،لكن السبب لا يرجع الى كون"شعبه يحبه" كما يحلو له القول.
هل من اللازم حقا التذكير بتازمامرت ودرب مولاي الشريف والاعتقالات السياسية المتعددة في حق"المتآمرين" التي تمت على امتداد عهد الملك"الموحد"؟زد على ذاك،أن الفترة التي قرر فيها الملك الراحل لأول مرة الانفتاح على الأحزاب،كانت الفترة نفسها التي شهدت ذروة الحملات القمعية،فسنوات 1974و1975،التي عرفت بالإجماع والوحدة الوطنية كانت أقسى فترة في عهد الحسن الثاني،يقول أحد معتقلي 23 مارس"بعد محاولتي الانقلاب،فهم الحسن الثاني أنه في حاجة إلى وجود معاضة رسمية شرعية للحيلولة دون بروز معارضة سرية"،ويضيف المعتقل السابق"الملك تبنى استراتيجية،انتهجها بعده المحافظون الجدد الأمريكيون،وتقتضي استباق كل معادلة محتملة،إذ كان يعلم أن توازن القوى مع الأحزاب وضع رجعي يمكن أن ينقلب،وكانت مهمته هي تحويل هذا الوضع إلى واقع لا رجعة فيه"،المعجبون بالحسن الثاني يثنون كذلك على"الضربة العبقرية" التي خففت من حدة عواقب منعطف التسعينات،فلم يتأخر الملك الداهية في إدراك التداعيات المحتملة لسقوط المعسكر الشيوعي،والأهمية التي ستولى لحقوق الإنسان في العلاقات الدولة،في الحقيقة،يرجع الانفتاح السياسي الذي عرفته الحقبة الأخيرة من عهد الحسن الثاني بشكل كبير إلى الصدمة التي خلفها نشر كتاب جيل بيرو"صديقنا الملك" سنة 1991،والنظرة الجديدة التي تكونت لدى الصحافيين الأجانب عن ملك لا يرحم في انتقامه،ففي تلك الفترة تسربت أول الأخبار عن ما وقع لعائلة أوفقير التي سجنت بأكملها ونقلت من زنزانة إلى زنزانة لمدة 17 سنة،هذا المنعطف السياسي عجّل بالتعديلين الدستوريين في 1992و1996 وبإحداث وزارة حقوق الإنسان،التي لم تعش طويلا،وبإنشاء المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان،أما الانجاز الكبير فتمثل في تشكيل حكومة التناوب سنة 1998،مما أعطى نفسا جديدا لجاذبية الحسن الثاني،فلم يعد يمثل فقط صورة الملك القوي الجبار بل أصبح الملك الذي يتحلى في التخيل الجماعي برحابة الصدر وبعد النظر.
السكيزوفرينيا الملكية
كتب جان دانييل في سنة 1997 واصفا الحسن الثاني"تجمع شخصية الحسن الثاني بين العديد من التناقضات،فهو طاغية لكنه طاغية مستنير،وهو المستبد لكنه متأثر بالفكر التقدمي الغربي،وهو إقطاعي لكنه كذلك رجل منشغل بالحداثة"،وبجملة واحدة لخص الكاتب الصحفي الفرنسي سكيزوفرينيا الحسن الثاني"لقد كان رجلا يجمع بين كرم السيد النبيل وقسوة الإقطاعي الظالم"،كان الملك الراحل يقر بهذه الازدواجية في شخصيته،بل وكانت ورقة يلعب بها،فقد أفصح لايريك لوران قائلا" لكل إنسان وجهه الآخر،كلنا نعاني من السكيزوفرينيا لكن كبح جوامح أهوائنا هو ما يجعلنا نحافظ على التوازن"،كما لعب على ازدواج شخصيته في الرد على سؤال يتعلق بإحساسه بعد خيانة الجنرال أوفقير،حيث قال"كان هناك الإنسان الذي آلمه الجحود،لكن كان هناك ملك المغرب"، كان الحسن الثاني في استعراض دائم،كما لو أنه يمثل دورا،اذ برع في فن الإخراج،فخرجاته الإعلامية كانت بالفعل لحظات سياسية مشهودة يستعرض خلالها كل الصور التي نعرفها عنه،حيث تتعاقب أوجه الحسن الثاني،المهدد الأبوي والعصبي والودود والساحر واللامبالي...
في غضب الحسن الثاني كما في انتقامه،يتجلى نوع من التهكم البارد الشبيه بالسادية،فقد كان رده على عبد السلام ياسين بعد نشر"الإسلام والطوفان" بحبسه في مستشفى للأمراض العقلية،وعلى عبد الرحيم بوعيبد الذي اختلف معه بشأن قضية الصحراء بنفيه الى سجن مدينة ميسور(التي يطلق عليها"عاصمة الحمير" لكثرة هذا الحيوان بها)،وعلى حد قول الصحفي خالد الجامعي"كان الحسن الثاني بين لويس الرابع عشر وهارون الرشيد،الاستبداد الفرنسي وفخامة وأبهة الشرق"،فهناك انبهار غربي كذلك بشخصية الملك الراحل،وحسب تحليل جان دانييل"فان الفرنسيين منبهرون بالعظمة في شخصية الحسن الثاني،تلك العظمة التي افتقدوها منذ عهد لويس الرابع عشر ونابليون،إنها نظرة استشراقية"،أما الحسن الثاني فيفضل وفقا لاعترافاته،أن يشبه الملك لويس الحادي عشر،الذي وحد المملكة الفرنسية ورسخ أسسها بإخضاع كل الرعية،وهي بلا شك طريقة يبرر بها الحسن الثاني الحرب التي كان يشنها دون هوادة ضد كل أعدائه على مدى سنوات حكمه.
ملك التواصل
ثمة جانب آخر من جوانب السحر في شخصية الحسن الثاني،يكمن بالطبع في نشاطه الدبلوماسي الكبير،الذي يفوق الوزن الاقتصادي والعسكري للمملكة،والمغاربة يذكرون ملكا استضاف أكبر الشخصيات في العالم،فقد كان أول قائد دولة عربي يستقبل البابا،وشكل ذلك حدثا شعبيا حقيقيا،كما أعطى المغرب(سيرا على نهج والده)صورة البلد المتسامح المنفتح على الإسلام والمسيحية والمنخرط أيضا في قضايا الطائفة اليهودية،هل كان الحسن الثاني صديقا لليهود؟مهما يكن،فان الجالية اليهودية المغربية،التي ظل يجامل زعماءها هي التي أضفت الشرعية على دور الوسيط الذي لعبه في الصراع العربي الإسرائيلي،لقد كان الملك الحسن الثاني بارعا في فنون التواصل.
ومازالت حواراته الصحفية الى حد اليوم تثير الإعجاب،لا يمكن أن ننسى على سبيل المثال الثقة الكبيرة التي كان يجيب بها آن سينكلير عندما سألته عن وجود معتقلي الرأي بالمغرب،فقد أنكر من البداية إلى النهاية دون أن يرف له جفن،كان الحسن الثاني يتمتع بفصاحة اللسان،فلم يكن يحضر كلمة مكتوبة على ورقة بل يترجل في خطاباته التي يدخل فيها الدارجة ويستشهد فيها بجمل أدبية ويستحضر فيها آيات قرآنية سواء بالعربية أو الفرنسية،لقد كان الحسن الثاني متمكنا في فصاحته وغزيرا في لغته،سواء كتابيا أو شفويا،فبالإضافة إلى سيرته الذاتية"التحدي"خلف الحسن الثاني حوالي 10 آلاف صفحة(خطاباته وحواراته الصحفية) موزعة على حوالي خمسة عشر مجلدا يمكن للعموم الاطلاع عليها،وتولى الراحل إدريس البصري جمعها،الأسطورة مازالت حية...
شخصية الحسن الثاني في عيون معاونيه
هناك ما يشبه سحابة من النوستالجيا تخيم على البلاد حيث نشهد تزايدا في عدد المسئولين السياسيين المتقاعدين من "أحمد عصمان غالى عبد اللطيف الفيلالي مرورا بعبد الهادي بوطالب "و الذين يصدرون مؤلفات أو يجرون لقاءات صحفية تتناول علاقتهم بالملك الراحل الحسن الثاني ،بذلك يشاركون على طريقتهم في بناء الأسطورة الحسنية وهم لا يعطون صورة حقيقية ولا مزيفة عن الحسن الثاني وإنما صورته في عيونهم هم و بطبيعة الحال كل واحد من هؤلاء يجر إليه الجانب الأكبر من الغطاء الذي يلف عهد الحسن الثاني بخصوص السنوات الأولى للحسن الثاني كملك كتب الوزير الأول الأسبق عبد اللطيف الفيلالي في مذكراته "المغرب و العالم العربي " عن إصدارات سكالي 2008 يقول ( مع مشروع الدستور فهمت انه اتخذ قرارا لن يتراجع عنه لقد كان عازما على أن يحكم و يسود و على اتخاذ كل القرارات بنفسه دون قبول آية مناقشة و بالتالي كان علي ترك الديوان الملكي) و يؤكد المستشار السابق للملك الراحل عبد الهادي بوطالب وكذا الوزير الأول السابق احمد عصمان وغيرهما من المعاونين السابقين للحسن الثاني على انه كان يسمح لهم بمخاطبته بلهجة حرة على الأقل عندما يتعلق الأمر بتواجه في الأفكار يقول هذا الوزير السابق "كان الحسن الثاني يتقبل الاختلاف معه في وجهة النظر بل كان غالبا ما يبحث عن الآراء المختلفة لقد كان يعقد اجتماعات عمل في كل مكان تقريبا فأحيانا كان الملك يستدعيني و كنا نعمل في سيارته بطريق فاس كما كانت هناك حصص الكولف الشهيرة التي كنا نتقدم فيها الواحد تلو الأخر للملك بينما كان يمشي نحو الحفرة الموالية وفي مناسبات أخرى كان يفضل العمل أثناء ممارسة الصيد قرب الصخيرات ..." ويقول احد المقربين من القصر "كان يهتم كثيرا بالتفاصيل و يتمتع بذاكرة فولاذية فقد كان يطرح الكثير من الأسئلة دون أن يسجل الملاحظات ومع ذلك لم يكن ينسى أدنى قرار يتخده".
أبهر الحسن الثاني أغلبية معاونيه و حاز على إعجابهم بشخصيته فالكل تقريبا يجمع أن الحسن الثاني كان ابرز رجال السياسة في جيله و يرجع إعجابهم هدا لا لكونه ملكا بل إلى الكاريزما التي كان يتمتع بها وقد شكل هؤلاء المعاونون العمود الفقري للأسطورة الحسنية فما إن ترسخت صورة الملك اللامع والمجتهد حتى بات من السهل نسج الإشاعات حولها ومثال على ذلك فعندما تناقلت الصحافة الرسمية خبر اختراع الحسن الثاني لجهاز طبي معقد تحت اسم "المركار" وهو نموذج أصلي لجهاز التخطيط الكهربائي الكلاسيكي للقلب لم يفاجأ احد حقا لان "سعة علم الحسن الثاني" كانت أمرا معروفا و التملق تولى بقية المهمة.
جنازة الحسن الثاني
كتب المؤرخ عبد الله العروي في كتاب "المغرب و الحسن الثاني" ،، ( كنا نلاحظ جميعا مرض الحسن الثاني و تردنا أخبار من الخارج عن دنو رحيله و عن الفوضى التي ستعقب ذلك لكننا كنا نعلم أن هذه الأخبار لم تكن بريئة لذا لم نكن نعيرها اهتماما و منا قد اعتدنا على شحوب الملك و مشيته المترددة و غيابه المتكرر و مع ذلك فان خبر وفاته نزل علينا كالصاعقة) ،بالفعل فقد خلفت وفاة الحسن الثاني فراغا كبيرا فوجئ العالم بالصمت الذي عم الشارع المغربي كأنه ظل مترقبا تلقي إشارة ما ، لكن في يوم جنازة الملك الراحل اكتشفت الكاميرات الأجنبية شعبا يبكي ملكه بحرارة وبهستيرية أحيانا كمصطفي العلوي الذي كان ينقل مراسيم الدفن وفقد صوته من شدة تأثره وبكائه وقد ظهرت صورته على الشاشة وهو يبكي.
أستاذة العلوم السياسية مونيا بناني شرايبي تلخص هده الظاهرة بقولها "الشعب المغربي كان يعتبر الحسن الثاني أب الأمة وعندما يتوفي الأب فان الأبناء يبكون حتى ولو كان هذا الأب متسلطا أو جبارا لان لا أحد يفكر في هذه الأمور ساعة الموت " .
ويحلل محمد الطوزي في كتابه "الملكية و الإسلام السياسي "تداعيات وفاة الحسن الثاني كما يلي "لحظة الوفاة المكونة من ثلاث حلقات سمحت للآلة المخزنية بتأدية عملها كما يجب لملء الفراغ الذي خلفه موت الملك" ويعني بالحلقات الثلاث ما عرف بلحظات الموت الثلاث للملك الموت الطبي السريري والموت المؤسساتي والرمزي و اخيرا الموت الرسمي والفعلي الذي أعلنه الملك محمد السادس.
مات الملك عاش الملك.
نُشر بمجلة نيشان الأسبوعية العدد 172بتاريخ 24 -30 أكتوبر 2008


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.