حين نشرت إحدى صحفنا أن «داعش» وصلت إلى مصر قلت: أكلما عنَّ لمخبول أو مهووس أن يطلق فرقعة يدعى فيها حضورا بمصر، سارع الإعلام إلى ملاحقته بالأضواء وتطوع بتسويقه والترويج له؟ أدرى أن ثورة الاتصال أتاحت لكل من هب ودب بأن يعلن عن نفسه ويوجه ما يشاء من رسائل تعلقت بآرائه وأهدافه، دون ان يكون بمقدور أى أحد ان يتعرف على هويته ووزنه. ولست أشك فى أن الإعلاميين يدركون ذلك جيدا. لذلك فالمسئولية المهنية تقتضى ألا تمر تلك الرسائل بغير دقيق أو تمحيص، قبل أن تخرج من المجال الخاص إلى العام. لقد استغربت ان يصبح حضور داعش فى مصر عنوانا رئيسيا للصفحة الأولى فى إحدى الصحف يوم الثلاثاء 19/8. وأصابتنى الدهشة حين قرأت فى إحدى صحف الأربعاء على لسان من وصف أنه قيادى فى الجماعة أنهم يستعدون لغزو مصر، وان ليبيا فى الغرب والكويت فى الخليج هى الوجهة المقبلة لزحف الدواعش وزعم صاحبنا أنهم يستعدون لتلقين الأمريكيين وزعيمهم «كلب الروم» درسا لن ينسوه من قبل عناصر جيش الخلافة، ولكى يدللوا على ذلك ويؤكدوه فإنهم صمموا صورة للبيت الأبيض وقد ظهر عليه علم «الخلافة» المرفوع الآن على بعض مناطق سورياوالعراق. أعرف أن كثيرين فى مستشفى الأمراض العقلية يرددون كلاما مماثلا، وشوارع القاهرة يهيم فيها بعض هؤلاء. ممن يعتبرون أنفسهم مبعوثى العناية الإلهية ويقودون الجيوش ويهدمون الإمبراطوريات ويخبرون المارة بمواعيد حلول يوم القيامة والحياة فى الأكوان الأخرى. وهؤلاء جميعا يتركون لحالهم، فلا يحاسبون أو يتعرضون حتى للعتاب. لكن المشكلة تحدث حين يتحلق حولهم المصدقون الذين يأخذون كلامهم على محمل الجد. لأننى أعرف أن اسم داعش اختصار للأحرف الأولى من عنوان الدولة الإسلامية فى العراق والشام، فقد خطر لى أن يكون ظهور الاسم فى مصر بات رمزا لشىء جديد، ربما كان الدولة الإسلامية فى العمرانية وشبرا. لكن وجدت غيرى طرح مبادرة أخرى وتحدث عن «واهف» التى هى اختصار لاسم الدولة الإسلامية فى فيصل والهرم. وعند المفاضلة بين الاسمين وجدت اسم الدولة الأولى أفضل لأنه يمد حدود «الدولة» لكى تشمل محافظتى الجيزة (حيث حى العمرنية) والقاهرة التى يعد حى شبرا بين أبرز ضواحيها. أما الاسم الثانى فهو يحصر الدولة المنتظرة فى حدود محافظة الجيزة وحدها، الأمر الذى يتطلب بذل جهد إضافى لضم القاهرة إليها مستقبلا. كأن مهمة إقامة الدولة قد انجزت ولم يبق لنا الآن نرسم حدودها ونتخير الاسم المناسب لها. كما رأيت فإن اقحام مصر فى الموضوع لا يمكن التعامل معه إلا على مستوى التندر والهزل. هذا إذا كان الكلام مقصورا على مبدأ وجود الدواعش. أما الحديث عن غزوهم لمصر فأحسب أن الأمر يتطلب مستوى من السخرية لا أقدر عليه، لأنه من قبيل الأفكار التى لا مجال لتداولها إلا فى جلسات الأنس التى تدير فيها المخدرات الرءوس وتتبخر منها العقول بحيث يصبح أى تخريف واردا ومثيرا لضحك الجالسين الذين يقهقهون حتى ىسيل من أفواههم اللعاب ويستلقون على أقفيتهم. إذا تجازونا عن الهزل ودخلنا فى الجد فسنجد أن ثمة كلاما ينبغى أن يقال فى الحديث عن فرقعة الداعشية فى مصر. وهو ما ألخصه فى النقاط التالية: إننى لا أستبعد أن تتحول الداعشية إلى أفكار متخلفة تعبر عن الجهل بالإسلام ومراحل الانحطاط فى تاريخه، دون أن يعنى ذلك بالضورة ارتباطا بالمجموعة التى ترتكب الجرائم والأهوال فى العراق وبلاد الشام. تماما كما حدث مع أفكار تنظيم القاعدة. من ثم فلن يكون مستغربا ان يوجد فى مصر نفر من هؤلاء، المخبولين، ينضمون إلى فئة المتخلفين فكريا وعقليا. أما الحديث عن دولة وعن غزو لمصر فإنه يظل محصورا فى نطاق مداولات جلسات الأنس سابقة الذكر. إن الأفكار لا تهبط على الناس من السماء فجأة، لكنها إفراز لبيئة مواتية وظرف تاريخى مناسب. وخروج الدواعش من العراق وثيق الصلة بظروف بيئته التى يتداخل فيها غضب ونقمة أهل السنة على النظام الطائفى مع قدرات جيش صدام حسين، مع الطبع العراقى الحاد. فضلا عن تدخلات الجيران. وكل ذلك لا وجود له فى مصر الأمر الذى يعنى أن تكرار تجربة الجماعة فيها أمر غير وارد. إن هذه ليست المرة الأولى التى يقحم اسم مصر فى مخططات جماعات تنشط خارجها، فلطالما أوهمتنا القاعدة بأن لها رجالا فيها، كما أن حزب التحرير لايزال يصدر بيانات يتحدث فيها عن «ولاية مصر» دون أن يعنى ذلك شيئا له قيمته على أرض الواقع. إننى أفهم ان المبالغة الإعلامية فى تصوير حضور داعش فى مصر يخدم سياسة شيطنة الإسلاميين والتخويف منهم. حيث تقدم الجماعة نموذجا يحقق تلك الرغبة وزيادة، ذلك أن الجرائم التى ترتكبها بحق المخالفين مسلمين كانوا أم غير مسلمين كفيلة بإشاعة النفور والكراهية لكل ما له صلة بالإسلام. إن تعمد إبراز جرائم داعش والتلويح صراحة أو ضمنا بأن كل النشطاء الإسلاميين يؤيدونهم ويبطنون تفاعلا معهم يعد سلاحا خطرا للغاية، لأن الذين يستخدمونه للتنديد بالإسلام السياسى لا يلاحظون ان ذلك لا ينفر الأجيال الجديدة من التدين فحسب، ولكنه يدفعهم إلى مربع هجرة الدين والانتقال إلى صف الإلحاد. وهذه الظاهرة لها وجودها فى مصر الآن بصورة لا تنكر. إن هجاء داعش أمر مفروغ منه، لكن الإلحاح على الربط بينهم وبين جماعات الاعتدال والوسطية الإسلامية مغامرة خطرة غير مأمونة العاقبة. لذلك من المهم للغاية الحفاظ على مسافة بين داعش وغيرها، وان تتسم النظرة النقدية لها بالحذر الذى يميز بين الجهل والتطرف، وبين دعاة الوسطية والاعتدال الذين ينبغى أن نحتضنهم ونرعاهم. لأننا بغير ذلك نفتح على أنفسنا أبوابا لجحيم لا نعرف له مدى أو حدودا.